خالد غزال
يعالج الكاتب البريطاني سايمون ديورنغ في كتابه «الدراسات الثقافية: مقدمة نقدية»، الدراسة الثقافية بوصفها تخصصاً معرفياً أو أكاديمياً ومنهجاً في تحليل الثقافة من منظور اجتماعي – سياسي أكثر مما هو منظور جمالي. يُعتبر هذا المجال حديث العهد نسبياً حتى في الغرب نفسه، بحيث ترجع بداياته الى ستينات القرن العشرين خصوصاً في بريطانيا، وعلى أيدي مجموعة من الناشطين والمفكرين والأكاديميين البريطانيين اليساريين. لكنّ هذا النوع من الدراسات ما لبث ان انتشر في الدول الناطقة باللغتين الإنكليزية والفرنسية، ثم عاد فأخذ طابعاً عالمياً مع اتساع التوجه العولمي الذي حصل أخيراً على مختلف صعد الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. صدر الكتاب عن سلسلة «عالم المعرفة» (الكويت).
أولى ميزات الدراسات الثقافية اليوم هو توجهها نحو العالمية في موازاة التجارة والمال والاتصالات. مع تعولم التخصص تزداد صعوبة أخذ أي سياق ثقافي كمعيار، فآفاق الحوار والتبادل والبحث العلمي تتسع. لم يعد الانتشار يشكل مفتاح الدراسات الثقافية العالمية، بل الحركة. أصبحت الصيغ الثقافية ذات أهمية قصوى بالنسبة الى هذا التخصص، «والقول عن هذه الصيغ انها تميل نحو الحركة وعبر المسافات والحدود هو صحيح بالمعنى الحرفي، لكنه صحيح أيضاً من حيث ان علاقاتها مع ظروفها الاجتماعية والمادية تتغير بسرعة كبيرة وبشكل شامل. فالثقافة ليست شيئاً أو حتى نظاماً، انها جملة من الصفقات والعمليات والتحولات والممارسات والتكنولوجيات والمؤسسات التي تنتج أشياء وأحداثاً». من هنا، تبدو المواد الثقافية، استناداً الى الدراسات الثقافية اليوم، نصوصاً وأحداثاً وتجارب ينتجها ميدان قوة اجتماعية مكون من تيارات ونفوذ وهرميات اجتماعية.
تتصل الثقافة بالأجناس والأنساب، فقد طورت أمم عدة أنواعاً مختلفة من الدراسات الثقافية. في بريطانيا جرى تعريف الثقافة على انها طريقة حياة ومجموعة من النصوص ووسيلة تقسيم اجتماعي. واعتبر الأكاديمي «مفكراً حيوياً»، أي عضواً ممثلاً لمجموعة مضطهدة أو مغلوب على أمرها نسبياً. اما في الولايات المتحدة الأميركية، فالدراسات الثقافية فيها ترتبط بشكل رئيسي بباحثي «الأقلية»، أي مع التعددية الثقافية وتحليل العرق والقوة. واللافت ان الدراسات الثقافية الأميركية تبدو أقل هوساً بأميركا من الدراسات الثقافية البريطانية في بريطانيا، وقد يعود السبب الى كون الولايات المتحدة اكثر القوى العالمية جذباً للطلاب والأساتذة على الصعيد الدولي. اما الدراسات الثقافية الأسترالية، فخرجت من تأثير الدراسات الثقافية البريطانية وليس الأميركية، وهذه الدراسات تركز على الثقافة الشعبية ووسائل الاعلام.
يمكن القول ان الدراسات الثقافية على علاقة معقدة بالتاريخ أكثر منها بالدراسات الأدبية او علم الاجتماع او الأنثروبولوجيا، لأنها تركز على الثقافة المعاصرة. يطرح الأمر نقاشاً حول الماضي والحاضر، فأين تقف حدود الماضي وأين يبدأ الحاضر؟ سؤال جوهري في ميدان الدرسات الثقافية. «ان الحاضر، على أحد المستويات، ما هو إلا تعبير عن الماضي. ففي نهاية المطاف لا شيء يأتي من فراغ، ما ان نستبعد الإله والمصادفة من إطارنا المفاهيمي حتى يتقوى كل شيء بهيكليات الماضي وتحقيقها. فالحياة العادية مشبعة بالماضي». في المقابل، يظهر «المعاصر» اليوم أكثر حضوراً في الغرب مما كان عليه في أي وقت مضى، وتبدو الأجيال الراهنة مهتمة بالزمن الحاضر أكثر منه بالزمن الماضي، ولعل ازدياد الدرسات الثقافية إحدى الدلالات على ذلك. لكن المعاصر يظل في واقع الأمر جزءاً من الماضي. لقد قسم ريموند وليامز الحاضر الى ثلاثة أقسام: القسم الأول، هو «المتبقي»، أي التشكيلات الحالية الموروثة من الماضي لكنها ذات مستقبل ضئيل. القسم الثاني هو «المهيمن»، أي التشكيلات التي ما زالت تسيطر على الحاضر. والقسم الثالث هو «الصاعد»، أي تلك التشكيلات التي لم تصل بعد الى تطورها وتأثيرها الشامل.
تتناول الدراسات الثقافية موقع الثقافة اليوم وما اذا كانت تساهم في التغيير الاجتماعي، بحيث يمكنها ان تساهم في نقض الوضع الراهن، سياسياً واجتماعياً. ذهب بعض النقاد الى ان الدرسات الثقافية تقدم نظرة «تقدمية تقليدية اشتراكية نحو المستقبل»، لكن هذ النظرية تجاوزها الزمن بفعل التطورات السياسية والاجتماعية التي جرت في العالم. تساءل الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو عما اذا كانت الدراسات الثقافية تشكل ممارسة نقدية فاعلة يمكنها ان تقود الى نتائج عملية في التغيير الاجتماعي. تكمن أحد الأخطار في كون سياسة الدراسات الثقافية قد تفقد جوهرها النقدي وتنزع نحو التقليل من استقلاليتها، بالنظر الى كون أكاديميي السياسة الثقافية يعملون في مراكز تعتمد على عقود من الحكومات ومن مؤسسات ثقافية ضخمة، وهو ما جعلهم يتخلون عن الاستقلال التقليدي للبحث الأكاديمي، بحيث توفر الاستقلالية حيزاً للمعرفة الضرورية والحرية في إبداء الرأي الصائب المخالف أحياناً لتوجهات الجهات المانحة للأبحاث.
تلعب وسائل الإعلام الحديثة دوراً مهماً في الدراسات الثقافية، عززت من موقعها ثورة الاتصالات الهائلة في مختلف المجالات. ويمكن القول ان التلفاز على علاقة وثيقة بالدراسات الثقافية. «ان توجه هذا التخصص نحو الشعبوية وتبخيسه الثقافة العليا، وتشديده على التلقي الثقافي كممارسة حياتية بدلاً من التفسير أو الانتاج، وإحساسه بالمستهلكين الثقافيين كأفراد منفصلين، كل ذلك يعزى الى ملاصقته للتلفاز». لكن التلفاز أثر أيضاً في السياسات وفي ميادين فنية مثل الموسيقى والسينما والرياضة، بل يمكن القول انه لعب دوراً أساسياً في نشر الثقافة الاستهلاكية السائدة اليوم. الى جانب التلفاز، يحتل الأنترنت موقعاً مهماً في الثقافة وفي تعيين وجهة الدراسات الثقافية. هذه الثقافة التقنية المتطورة تطرح سؤالاً عن الحدود التي ستصل اليها، وبالتالي ما ستكون آثارها الاجتماعية. يذهب بعض الباحثين في الغرب الى القول ان المقدرة المتزايدة على التواصل التي تأتي مع الشبكة تقوم فعلاً بوظيفة الحط من الديموقراطية لأنها «تغمر صوت الفرد ضمن كتلة من المعلومات والاتصال من دون ترتيب». والشبكة العنكبوتية، في هذا المعنى، تؤدي الى إضعاف المناقشات الفكرية والثقافية عموماً.
يقدم الكتاب مساهمة مهمة لكل من يهتم بالمعرفة والبحث الأكاديمي والإنتاج الثقافي، بالنظر الى سعة المواضيع التي يتطرق اليها والنقاشات الفكرية التي يستحضر فيها فلاسفة وعلماء اجتماع، كانت همومهم منصبة على الثقافة ودورها وموقعها في السياسة والاجتماع.
الحياة