سليمى شاهين
هذه قصة مواطن أرمني مولود في السلطنة العثمانية، التحق بالجيش وغدا جندياً متفوقاً دافع عن الباب العالي رغماً عن مخاوف متأصلة ونائمة في روحه.
تخرّج النقيب سركيس طوروسيان من كلية عسكرية بارزة، وتلقى تدريباً متقدماً في ألمانيا، وخدم الجيش بتميز فاستحقّ أوسمة بارزة لمهارته، وقاتل بنزاهة لحماية مصالح بلاده وتعزيزها فقام بانجازات استثنائية.
صديق الجندية
صادق سركيس الشاب المقدام عربياً عثمانياً اسمه محرم، كان والده الباشا يعمل عميداً في القسطنطينية. ونال طوروسيان ثقة الباشا، والأهمّ بسبب سرّ مكنون حفظه العميد في قلبه، فضمن للأرمني مقعداً في الكلية العسكرية.
في 1914 تخرّج الشابان برتبة ملازم ثانٍ وكلّفا فوراً بالعمل في فرقة المدفعية بالجيش والتي كانت تستعد للحرب، وكان السرّ هو هوية ابنة الضابط، أي شقيقة محرم، جميلة التي من أصل أرمني أنقذها الباشا عندما كانت طفلة.
غرام سركيس بجميلة
أغرم طوروسيان بجميلة التي تربّت كشابة مسلمة حقيقية، تعيش في عائلة محترمة وتقليدية، من دون أن تعرف هويتها الأصلية، وبعد تخرجه من الكلية العسكرية، أُرسل التلميذ الشاب إلى مصنع عسكري في ألمانيا حيث نال لفترة ثلاثة أشهر تدريباً متقدماً على استخدام المدافع.
عُيّن طوروسيان قائداً لحصن أرطغرل لحماية مدخل الدردنيل، لدى بدء الحرب العالمية الأولى. وفي بداية 1915، حين كانت حملة غاليبولي في مراحلها الأولى نُسب إلى طوروسيان ورجاله الفضل في إغراق بارجة بريطانية، كما أعلن هو أن جهوده أدّت إلى تدمير ثلاثة طرادات حربية إنكليزية وغوّاصة. وقد قرّظ جواد باشا جهوده في معارك مختلفة، وهنأه وزير الحرب أنور باشا شخصياً وعرّفه بفخر إلى ضباط ألمان رفيعي الرتب ونال طوروسيان وسام الحرب للدولة العثمانية مكافأة له.
حملة غاليبولي
بين شهر أبريل من العام 1915 ويونيو من العام 1916 دافعت السلطنة العثمانية عن مضائق الدردنيل الحيوية البحرية لروسيا التي كانت حليفة للغرب وقتئذ. وتعرض شبه جزيرة غاليبولي لهجمات وحشية أعقبتها إنزالات طموحة، وربما شمل الهدف غزواً في نهاية المطاف للمدينة العاصمة، على الرغم من أن الاعتداءات صُدّت بنجاح.
مثّلت حملة غاليبولي بالنسبة إلى تركيا المعاصرة، إنجازات على الصعيد العسكري فصمدت في ضوء فشل أكثر من نصف مليون جندي حليف في تحقيق أهدافهم وسحبهم في نهاية المطاف. وأدت الحملة التي طالت لثمانية أشهر إلى خسائر بشرية فادحة، يُقدر أنها فاقت ربع مليون في كل طرف، ما جعلها إحدى أكثر الحملات دموية في الحرب العالمية الأولى.
اكتشاف السرّ
قاتل سركيس طوروسيان في غاليبولي كضابط عثماني موالٍ إلى جانب صديقه محرّم الذي أصيب بجراح بالغة. وحين علم طوروسيان بما حصل وأنّ الشاب الجريح طلب رؤيته ذهب إليه على جناح السرعة. وخلال ساعات مؤثرة وطويلة، وقبيل وفاة محرم، انقلبت حياة طوروسيان رأساً على عقب حين اكتشف أن جميلة كانت أرمنية على الرغم من كل شيء، وأن الباشا كان قد أنقذها من موت محتّم، وترافق الاعتراف المذهل، الصادر عن «الشقيق» المحتضر، برغبة واضحة بأن يتزوج طوروسيان جميلة، الأمر الذي أدى إلى لقاء دراماتيكي آخر حين نقل سركيس الاعتراف إلى الشابة.
سلوك الدولة تجاه الأرمن
بحلول مارس 1915، أي قبل حملة غاليبولي، اكتشف طوروسيان أن الثرثرة عن مذابح الأرمن بدأت تكثر. وعرف ربما أن الأرمن الموظفين في الدولة كانوا يُعفون تدريجياً من مهامّهم، وأن الجنود الأرمن كانوا يجرّدون من سلاحهم، فكتب يقول: «سرت إشاعات عن أن مجازر كبرى سترتكب، وأن الكتلة السكانية الارمنية ستباد أو ستجبر على عبودية رهيبة في الداخل… وبدأت أتساءل عمّا سيكون مصيري أنا}.
إبادة الأرمن 1915
كان طوروسيان قلقاً على حياته وخائفاً من الموت. وكان منهمكاً في كثير من معارك غاليبولي. وحين رُحّل الأرمن بالقوة خلال المراحل الأولى للإبادة استمر طوروسيان في الخدمة مطمئناً إلى أن أي أذى لن يلحق بعائلته استناداً إلى وعد من أنور باشا. لكن طوروسيان كتب أن حاكم ولاية قيصرية صالح زكي بك، تجاهل الأمر وتابع ترحيل عائلته فقُتل والداه ونجت شقيقته بايزر التي وجدها في نهاية المطاف في مخيم اعتقال في تل حلف بسورية، وعلى الرغم من إنقاذها فقد توفيت لاحقاً في ظروف صحية سيئة.
الانشقاق
شارك طوروسيان قرّاءه في تأملات عميقة رواها بوتيرة سريعة، تبرز كيف ساعدت شهادة العيان التي قدمتها بايزر إلى شقيقها الضابط على صقل خططه للانشقاق وللانتقام لعائلته الشهيدة وأمّته.
غيّر طوروسيان ولاءه وانضمّ إلى معارضي السلطنة، خلال استمراره في الخدمة العسكريّة، وظلّ على اتصال بقادة عرب، خصوصاً الرائد نوري بك، وهو ضابط أركان عربي من الفيلق 14 كان ينتمي إلى عائلة نبيلة وشُنق قريبه في دمشق بأمر من جمال باشا.
البحث عن جميلة
جال النقيب سركيس من نابلس إلى غزة مع رجال موثوقين قلائل للبحث عن جميلة، وصولاً إلى الضفة الغربية حيث عاشت جميلة وأمها بعدما غادر الباشا القسطنطينية عائداً إلى شبه الجزيرة العربية.
كانت الشابة مكسورة القلب بسبب فقدان أخيها ودخلت في حالة من الذهول، وربما معرفة أن حبيبها منهمك في معارك خطرة وقد لا تراه مجدّداً. وعندما وصل سركيس إلى غزة توفيت بين ذراعيه بعد وقت قصير.
يتذكر سركيس في أوراقه فيكتب: «حملت جميلة بين ذراعيّ، وذاب الألم والذعر في عينيها حتى التمعتا مجدداً كنجمتين، نجمتين في ليلة شرقية، وذبل الجفنان رويداً، فتوفيت كحلم عابر”
الجريدة