همسات وعدسة: زياد جيوسي
خاص ( ثقافات )
من إيطاليا حيث معابد الجمال والفن حلّقت الفنانة التشكيلية ريما المزين لتحط مع لوحاتها التشكيلية التي تروي الحكايات في عمّان الهوى عاصمة الأردن، وحين وصلتني الدعوة لحضور المعرض وأنا في رام الله العشق والجمال، عملت جاهداً أن أرتب زيارتي لعمّان كي أكون حاضراً في افتتاح المعرض، فعلاقتي مع فن ريما المزين قديمة وقائمة على متابعة إبداعاتها عبر الشبكة العنكبوتية والصورة الفوتغرافية، وبالنسبة إلي كمتذوق للفن التشكيلي منذ كنت طالباً في الجامعة في العراق لا يكفيني ذلك، إذ لا بد من تحقيق المتعة بتأمل اللوحات عن قرب، والاستماع لهمساتها، والتحليق في فضائها، والغوص في أعماقها، فالفن التشكيلي من أقدم الفنون التي مارسها الإنسان، فما زالت نقوش الإنسان البدائي في الكهوف خير تعبير عن ذلك.
وصلت عمّان، وفي موعد افتتاح المعرض، ورغم الحر الشديد، كنت أتجه إلى قاعة (جاليري زارا سنتر)، ولم أكن قد أعلمت الفنانة بنيتي الحضور، تاركاً حضوري بناءً على الظروف ومتغيراتها، متمنياً تحقق الحلم وحضور المعرض، وهذا ما كان، فكان لقاء جميلاً مع الفنانة، وجولة في عالم الألوان والفن وليس أجمل، فالفنانة التي اعتادت أن توظف (رمز المرأة) في فنها، ممازجة الفكرة عندها بالمرأة في الأسطورة الكنعانية وهي الحضارة الفلسطينية الأولى، وحكاية آدم وحواء، مازجت في معرضها هذا بين رمزية الشجرة وأشكالها وألوانها وصفاتها وعطائها بالمرأة، فتمازجت الشجرة بالمرأة وانصهرت المرأة بالشجرة، فكان إبداعاً متميزاً فكرة وموضوعاً.
أبدعت ريما المزين بمعرضها، كان عدد لوحات المعرض قد تجاوز الـ 50 لوحة، وهذا عدد كبير لمن سيقف لتأمل اللوحات لوحة إثر لوحة، فمن يحلق في فضاء الفن التشكيلي يحتاج الكثير من الوقت أمام كل لوحة، فقررت تقسيم جولتي لفترات زمنية، فقمت بجولة شاملة أولاً، ثم تجولت في قاعة من قاعات المعرض الثلاثة بتركيز، لأعود مرة أخرى لزيارة المعرض للتجوال مبكراً بهدوء، وإعطاء اللوحات حقها من التأمل، فمثل هذه اللوحات وهذا المعرض لا يكفيه للتحليق بلوحاته جولة عابرة.
الفنانة في هذا المعرض واصلت مسيرتها باستخدام رمزية المرأة في فنها ومدرستها الفنية، فقد سبق أن أنجزت أكثر من معرض في هذا المجال ومنها معرضها (أنا لست دمية) في (جاليري آرت لاونج) في القاهرة، ومعرض (الجسد ذاكرة المكان)، ومعرض (مريم رمز ولون)، ومعرض (أنا لست رقماً)، ومعرض (بالفلسطيني)، وحظيت هذه المعارض بنجاح متميز، وكانت بين مصر وايطاليا.
في معرضها هذا اعتمدت ريما على أسلوب التركيز على القيم اللونية والجمالية، واعتمدت أسلوب إعادة خلق وصياغة الأشكال المتنوعة بين المرأة والشجرة وعلاقات التشابه بينها في رمزيتها، فكان الانصهار والتمازج في الفكرة بين عطاء الشجرة وعطاء المرأة واختزال الفكرة باللون للجمالية المشتركة والصفات.
المرأة كان لها رمزية ومكانة كبيرة في الأسطورة الكنعانية، وهذا ما يلمسه أي دارس ومتابع لما قدمته تلك الحضارة من فنون، وقد التقطت الفنانة ريما المزين هذه الرمزية وعكستها من خلال لوحاتها، فجعلت المشاهد يعود آلاف السنين إلى الخلف لجذور الحضارة الكنعانية التي سادت المنطقة عبر ممالكها المختلفة، كما تمكنت بذكاء من توظيف فكرة شجرة النخيل في سورة مريم في القرآن الكريم وشجرة التفاح في حكاية سيدنا آدم وحواء في الجنة كي تبرز العلاقة بين المرأة والشجرة، رغم أن النص القرآني لم يحدد نوع الشجرة التي أكل منها آدم وحواء، ولكن المتوارث ركز على شجرة التفاح.
تميزت لوحات المعرض بالنقاء اللوني، فلم ألمس فيها أية بثور في اللون، كما لم ألمس أي بخل في اللون أيضاً، فكانت اللوحات بشكل عام من الدقة في الرسم وكأنها صور فوتغرافية، وهذه مسألة تشير لقدرة الفنانة على تطويع الريشة واللون بنفس طويل، وفي العديد من اللوحات استخدمت الأسلوب الحلزوني للانطلاق من البؤرة اللونية للفكرة الرمزية الجميلة والمعبرة والتي تشد المشاهد للتأمل وروحه محلقة في فضاءات من جمال يحمل فكرة وليس مجرد فن من أجل الفن.
مسيرة ذات عطاء متميز عبر عشرين عاماً مضت للفنانة التي شاركت بأكثر من تسعين معرضاً فنياً مشتركاً، واثني عشر فيلماً في الفيديو آرت، وثلاث عشرة معرضاً شخصياً، جالت معارضها الدول والأمكنة من إيطاليا وصولاً إلى الأردن مروراً بفلسطين ومصر والإمارات العربية وقطر وبلغاريا وأمريكا وفرنسا وبريطانيا وأمكنة عديدة، فخرجت من إطار المحلية إلى إطار العالمية، حاملة رسالتها بكل عزم وإصرار.
شكرا لريما المزين فنانة مبدعة على هذا العطاء المتميز، فقد أتاحت لي أوقاتاً جميلة لتأمل رمزية المرأة وحكايتها مع الشجر، وأتاحت لي فرصة التحليق بالأسطورة الكنعانية ورموزها، فكان لزيارتي هذه المرة لعمّان نكهة أخرى..