*آمال الديب
خاص ( ثقافات )
ظهرت مذكرات كثيرة معاصرة للكاتب الروسي الكبير فيودور دستويفسكي.. صاحب مؤلفات الجريمة والعقاب والإخوة كارامازوف والمقامر، وغيرها من الأعمال. تعلمت أنَّا الاختزال على يد أستاذ شهير هو البروفيسور أولخين.. الذي أرسلها بدوره إلى ديستويفسكي وبدأت العمل معه كمختزلة لرواياته.. وحكى ديستويفسكي عنها في أحد خطاباته: “عندما أخذت الرواية تقترب من نهايتها لاحظت أن المختزلة تحبني بإخلاص، على الرغم من أنها لم تذكر لي كلمة واحدة عن هذا الأمر. أما أنا فقد كان إعجابي بها يزداد يوماً بعد الآخر، ومنذ مات أخي وجدتني أشعر بوحشة رهيبة وأصبحت حياتي صعبة، عندئذ بادرتها بطلب الزواج.. إن الفارق بيننا في العمر شاسع (عشرون وأربع وأربعون)، ولكن قناعتي تزداد أكثر فأكثر أنها سوف تكون سعيدة. إن لديها قلباً وإنها قادرة على الحب”.
كان خبر زواجهما صادماً لجميع من حولهما، أقاربها وأقاربه.. وكانت تبعات هذا الخبر الصادم ممتدة للأشهر الأولى في زواجهما، وبخاصة أن البيئتين مختلفتان شديد الاختلاف.. كما أن أنَّا قد تحملت عبئاً كبيراً أمام المرض القديم لزوجها بالصرع، كما أن ديستويفسكي صرَّح في خطابه لمايكوف صديقه عن أسباب سفره وزوجته: “هناك سببان رئيسيان، الأول: إنقاذ صحتي فضلاً عن حياتي ذاتها، والثاني ما يحيط بي من ظروف: لم يعد الدائنون يطيقون صبراً”.
ظلت أنا جريجوريفنا فترة طويلة محجمة عن كتابة مذكراتها، كما ظلت أيضاً راغبة عن نشر خطابات دستويفسكي التي كتبها لها. تقول في حديث لها مع الصحفي ك. ي. أتينجر: “لست أديبة، ناهيك عن إحساسي بالخوف أن يعد الناس هذا العمل نوعاً من الزهو والغرور، فضلاً عن ذلك فأنا أرى أنه من المستحيل أن أقوم بنشر خطابات فيودور ميخايلوفيتش لي قبل وفاتي. ليس لديَّ أي قدر من الغرور. إن الناس يولونني قدراً كبيراً من مشاعر الحب والتقدير بصفتي أرملة دستويفسكي، الأمر الذي يجعل من الرغبة في تحقيق مجد شخصي أمراً غريباً عني تمامًاً”.
يصف مترجم الكتاب شخصية دستويفسكي بالازدواجية، فـ”الرجل العبقري عندما يغادر الحياة يترك أهم ما لديه – أعماله التي تسجل حكمته وعاطفته وسمو روحه، ولكنه يظل في جانب منه دائماً لغزاً”.
وتقول أنَّا في معرض توضيح صورة زوجها الراحل فيما يشبه الدفاع للكاتب والناقد أ. إسماعيلوف: “إن هذه الخطابات ومذكراتي ضرورية ليرى الناس في النهاية هذا الشخص على نحو حقيقي. إن المذكرات التي كتبت عنه قد شوهت مراراً صورته تماماً”.
تتسم مذكرات أنَّا بالعمق والبساطة والطبيعية، وتستهدف أن تقدم لقراء دستويفسكي كاتبهم بكل جوانبه المضيئة وأخطائه على نحو ما كانت عليه تماماً في حياته العائلية والشخصية.
يقول دستويفسكي في أحد خطاباته إليها: “عادة ما تشاهدينني يا آنيا عبوساً، كئيًبا ونزقاً، ليس هذا سوى أمر ظاهري، ولعلي دائماً كنت أبدو على هذا النحو، خائر العزم، سيئ الحظ، أما باطني فشيء آخر، صدقيني، صدقيني!”.
هذا الشيء الباطني هو ما كانت أنَّا تحبه وتقدره على نحو خاص في دستويفسكي، وهو ما أحست به منذ لقاءاتهما الأولى، وهو ما تسنى لها وحدها إدراكه. وقد أوضحت هذا في مذكراتها كلها، والتي تمثل في مجملها شيئاً متميزاً وثميناً، فقد صححت مذكراتها تلك رؤيتنا للكاتب وفتحت الباب أمامنا لندلف إلى داخل بيت دستويفسكي، وأخذت بيد القارئ إليه، بعد أن قدمت له رجلاً آخر لم يعرفه أحد سواها، وعلى هذا النحو سوف تقدم لنا أنَّا، على سبيل المثال، دستويفسكي في لحظة من لحظات اعترافه. أو وهو يرتجل أمام زوجة المستقبل موضوع الرواية التي هو بصدد كتابتها، فيصف لها الحبكة التي سينسج من خلالها “الحالة النفسية لفتاة شابة”. إنه يؤلف الرواية ويحكي في الوقت نفسه سيرته الذاتية دون أن يزيل هذا الحد الفاصل بين الفن والحياة، وإنما يفسر بشكل واضح كيف يمكن عبور هذا الحد. لم يكن دستويفسكي ينتظر من مستمعته أن تفهم ما يقول بدقة ورهافة وأن تبدي رأيها فيه فحسب، وإنما كان يتلهف على أن تتخذ قرارها الحيوي الحاسم رغم شعوره بحبها له. ما كتبته أنَّا بكل ما فيها من مشاعر غريبة اختلطت فيها عزة النفس بالكبرياء والشك وافتقاد الثقة. إنها في واقع الأمر حالة درامية مؤلمة.
لكن يبدو أن أنا كانت ترى دستويفسكي بعين الحب، فلم تذكر شيئاً عما بدا واضحاً في كتاباته من بلبلة فكرية وتقلبات بين الإيمان والكفر، وعن الشكوك التي ظلت تنتابه، وقد وصفه ليو تولستوي بأنه “كتلة من الصراع”، وأنه مات وهو في قمة صراعه بين الخير والشر.
كما لاحظ المترجم أن أنَّا لم تكن بالأديبة المحترفة ولكن سنوات عمرها التي شاركتها دستويفسكي ومشاركتها إياه كذلك في أعماله ومناخ فنه الرفيع قد ترك أثره في تشكيل العالم الروحي لأنا. لقد كتبت أنَّا مذكراتها بشكل شديد الجاذبية. لا جدال أنها امرأة تمتلك المقومات الفنية الفريدة لدى الحكاء، وهو ما يذكره لها العديد من معاصريها.
وتتميز مذكراتها بالدعابة الرقيقة والدافئة وبرونق خاص لا يمكن للقارئ إلا أن يفتر ثغره عن ابتسامة وهو يطالع كيف أحس دستويفسكي بالغيرة على زوجته من جريجوروفيتش وكيف نجحت في أن تحذر “المذنب” الذي أثار غيرة زوجها: “فقط هذه الكلمات المهينة: “انظروا هذه الفرنسية، تتصرف مثل شيطان صغير”.. جعلتني أدرك أن العجوز جريجوروفيتش… (وهو المقصود بهذه الدعابة البسيطة). هكذا تحكي أنَّا جريجوريفنا عن حالة النسيان وتشتت الفكر عند زوجها.
وأخيراً كان الجهد الذي بذلته أنَّا بعد موت زوجها جهداً عظيماً متنوعاً، فقد أصدرت سبع طبعات من أعماله الكاملة… وفي سنة 1906 ظهر العمل الفريد لأنَّا جريجوريفنا وهو “الدليل الببليوجرافي للأعمال والمؤلفات الفنية التي أبدعها دستويفسكي إبان حياته. وطوال هذه السنوات كانت أنا تعمل على فك شفرة “مذكرة الكاتب” لعام 1867، وكذلك على إعداد ونشر كتاب خاص يضم خطابات دستويفسكي إليها، وكذلك كتابة المذكرات، وإلى جانب هذه الاعمال الأدبية الكبرى أسست أنا في ستاريا روسا مدرسة للحرف الشعبية إلى جانب تأسيس شقة – متحف ف. م. دستويفسكي وإنشاء غرفة خاصة بدستويفسكي ملحقة بمتحف التاريخ، والتي تعتبر نواة لشقة- متحف دستويفسكي في موسكو.
تقول أنَّا في جزء من مذكراتها: “لا أتعهد لأحد أن تكون مذكراتي شيقة، ولكنني أستطيع أن أضمن صحتها وحيادها الكاملين، من حيث وصف مواقف بعض الشخصيات، فهذه المذكرات بنيت أساساً على مدونات مؤيدة بخطابات ومقالات من الصحف والمجلات، وأعترف صراحة أن مذكراتي تحتوي على أخطاء أدبية كالإطالة في السرد، والتباين في حجم الفصول، والأسلوب القديم، وهلمجرا. على أن المرء وقد بلغ السبعين من العمر، يصعب عليه أن يتعلم أشياء جديدة، وإنما يغفر لي هذه الزلات إخلاصي ورغبتي القلبية في أن أقدم للقارئ فيودور ميخايلوفيتش دستويفسكي بكل ما له وما عليه، وأن أضع أمامه الصورة التي كان عليها في حياته الشخصية والعائلية.
تختم أنَّا مذكراتها بقولها: “في الواقع كنت أنا وزوجي نعتبر أنفسنا أناساً لهم مزاج مختلف تماماً، لهم طابع آخر، رؤى مختلفة، لكننا بقينا على سجيتنا دائماً، لم يتدخل أحدنا في شؤون الآخر، لم يقلده، لم يقتحم عالمه النفسي. وهكذا كنت وزوجي الطيب نشعر بحرية أرواحنا… إن هذه العلاقة، من طرفيها، أعطتنا إمكانية أن نواصل حياتنا الزوجية على مدى أربعة عشر عاماً في سعادة أرضية متاحة لمن أراد من الناس”.
_________
“