*د. شهلا العُجيلي
كنت أودّ أن أحدّثكم عن الجمال، والثقافة، والفنّ، وعن الحبّ الذي يجتاح الأرصفة ويحتلّ التقاطعات، عن أناقة المطر، وعن الرجال الذين يحملون المظلّات للنساء في جولات طويلة، عن “الويست إند” حيث تعرض مسرحيّات شكسبير، وعن البيت الذي أقام فيه إسحق نيوتن، والحانة التي كان يجلس فيها تشارلز ديكنز، وعن العرب الذين يحملون سيّاراتهم الفارهة ذات الشاخصات النفطيّة، يجرحون بضجيجها هدوء الشوارع، ولا يثيرون سوى مشاعر الاستهجان، محرومين من متعة الحصول على بطاقة “الأويستر” التي تخوّل الجميع ليتنقّلوا بالمترو أو الباص في الاتجاهات كلّها، من كينسينغتون وتشيلسي، وويست مينستر إلى سوهو وبيكاديلّي. فعلاً كنت أريد أن أحدّثكم عن ذلك كلّه، لولا أنّني اصطدمت بالذكرى السابعة لرحيل محمود درويش، الذي لا أتورّع عن نعته بصديقي الأعزّ، فالصديق هو الذي يكون معك حينما تحتاجه، ومحمود درويش بنصّه كان معي في الأوقات التي احتجته فيها جميعاً، وقت الحزن، والفرح، والخذلان، واليأس، والحبّ، والهجر، والذكرى، ووقت تخلّي الفكرة عن العقل، وما زال يفعل ذلك رغم الغياب.
لاحقته في أمسيات كثيرة، طفلة، وطالبة جامعيّة، في حلب ودمشق وبيروت، وكنت أحبّ أن أسمع من مدير المسرح مثلاً، أن المقاعد نفدت، وأنّنا سنضطرّ للوقوف أو الجلوس على الأرض إلى جانب المنصّة، فأسارع إلى المكان الأقرب من قامة الشاعر، وأحفر لنفسي كرسيّاً قريباً من العرش، وكذلك تفعل صديقتي التي لا تكفّ عن تدوين العبارات التي يلقيها على مسامعنا بخطّها الخرافيّ، ولا أدري لماذا تفعل ذلك، مع أنّها موجودة في الدواوين، وكانت دائماً تكتب في رأس كرّاستها: “الكمنجات…”!
لقاء وحيد جمعني بدرويش وجهاً لوجه في بيته في عبدون، تقابلنا فيه: تاريخ من الشعر أمام رواية أولى، لكنّه استمرّ ساعات، لا أكفّ عن أن أحدّث طلبتي بحديثها، فعلتها عشرات المرّات، كلّما درست له نصّاً، وذلك لأستعيد حلاوة الذكرى: النكت التي قالها، والعبارات الثقافيّة الناقدة، وطعم فناجين ثلاثة من القهوة التي يحرّكها محمود درويش بملعقة الشعر. حين فتح وقتها الباب، كاد أن يغمى عليّ، إذ كان ذلك أشبه بمواجهة بيني بوصفي فرداً عربيّاً، وبين التاريخ، تاريخ الذات وتاريخ الجماعة معاً، ذلك التاريخ الذي يقتلنا كلّ يوم، ومع ذلك نتمسّك به مثل تمسّكنا بأب ظالم نفضّله على فكرة الخواء.
في الحوار الذي أدارته معدّة البرامج ومذيعة الـ BBCذات النجاح الساحق بيديشا ماماتا، والذي كان على مسرح المكتبة الوطنيّة في لندن، ضمن فعاليّات مهرجان “شبّاك” على الثقافة العربيّة المعاصرة، سألتني بيديشا عن أثر الحراكات السياسيّة التي اعترت الشارع العربيّ مؤخّراً، في الكتابة، وعن دور وسائل التواصل الاجتماعيّ في تنشيط الشعر والرواية وعن تحوّلات “التابو” بالنسبة إليّ…كانت قد رتّبت لكلّ شيء: سيرتي الذاتيّة، ملخّصات حول كتبي، لوحات تعرض أغلفتها، ونقد حولها، وكانت إدارة المكتبة تسوّقها أمام باب القاعة، بأسعار باهظة، وهناك من يشتري طبعاً. فعلت ذلك من غير أن ترهقني بأيّ شيء، سوى تلك الدردشة المحبّبة مع الجمهور.
لقد جعلت التحوّلات الأخيرة الكتابة أسهل! وما يضير الكتابة أن تصير في متناول الجميع! ألم نطالب طويلاً بكسر احتكار المنابر، واستئثار القلّة والشلّة بها! ألا نلاحظ أنّ لغة الناس صارت أكثر دقّة وفصاحة، وأنّهم صاروا يكلّفون أنفسهم مشقّة البحث عن الرسم الصحيح للكلمات، وعن أبيات شعر، وعن عبارات مأثورة لمفكّرين وأدباء وعلماء، يفتتحون بها إطلالاتهم الصباحيّة والمسائيّة على الفيسبوك مثلاً! لا مانع عندي من أن يسعى الجميع للكتابة، وأستغرب المقالات الاحتجاجيّة التي قرأتها مؤخّراً عن انفضاض العرب عن القراءة لصالح الكتابة، لا تقلقوا! التاريخ كفيل بالفرز والغربلة، وأعتقد أنّ شعباً يكتب أفضل من شعب لا يكتب.
سألتني أيضاً عن الشعر، وأنا أجد أنّ الشعر يخضع لحالة تطوّر فرديّة الآن، وأنّ ثمّة نصوصاً رفيعة، تعود إلى واحديّة الشاعر، بعيداً عن حركة شعريّة جماعيّة، وأنّ تجربة الشاعر الواحد لم تستطع تخطّي تجربة محمود درويش، الذي لا يختلف على شعريّته أولئك الذين أحبّوه ميّتاً أو حيّاً، ولا على تطوّر رؤيته الشعريّة، وإنّني لا أقبل أن تأخذ الحركات الثقافيّة، التي أطلقها الشارع العربيّ عبر فنونه الغنائيّة والتمثيليّة والمونولوجيّة ذات النزوع نحو موسيقى الروك والميتال الناقدة، الثقافة العربيّة بوجه ساخر على طول الخطّ، فثقافتنا فيها الكثير من الرصانة والجديّة والعمق، ويجب أن يضيء الجيل الجديد الجواتب المغيّبة بالأدوات الممكنة كلّها، لا بـ فنّ (الفارْس) وحده، ليستجدي ضحك الجمهور، وإنّ الثقافة العربيّة ليست واحدة، في كلّ البلاد الناطقة بالعربيّة، هناك فروق تاريخيّة حضاريّة.
بعد نهاية اللّقاء جاءت سيّدة من وسط الجمهور، أثنت على الحوار، وعلى طروحاتي التي لخّصتها في ساعة وبضع دقائق، وكما يحصل دائماً في اللقاءات الجامعيّة أو الثقافيّة في أوربة، قالت لي إنّها الجارة التي تسكن على مقربة منّي، بل في الباب المجاور لي في الأردن:
-هل عرفتِ أين؟
-طبعاً، فلسطين!
-تسمّونها فلسطين؟!
-هي كذلك فلسطين؟!
-نحن نسمّيها “إسرائيل”. هل سنختلف على الاسم.
-وعلى أشياء أخرى، لكنّ الاسم نقطة خلاف مبدئيّة في هذه الحالة.
أسعفني محمود درويش لأقول شيئاً، وكذلك فعلت ذاكرتي على غير عادتها، فقلت بشيء من العبريّة التي تعلّمتها في سنتين دراسيّتين:
“أمّ البدايات/ أمّ النهايات/ كانت تسمّى فلسطين/ صارت تسمّى فلسطين…”.
-تعرفين العبريّة.
-القديمة، التلموديّة، قرأت بها سفر التكوين.
-كيف؟ وأين؟
-في الجامعة، أليست لغة ساميّة! وأنت: هل تعرفين محمود درويش؟
-أعرفه.
حين مضت أستاذة الفلسفة، التي تقول إنّها جارة، شعرت أنّني لم أعد قابلة للاستفزاز السريع، حتّى لو كان سندي الشعر فحسب، وتمسّكت بصداقتي بدرويش، وبأنّ هذا الصراع التاريخيّ ليس وحده أسوأ ما حصل لنا، بل هناك ذوبان قضيّتنا المركزيّة التي سندت وجودنا أكثر مّما سندناها، وهناك تشظّيها إلى حروب أهليّة وإبادات بشريّة قُطريّة تساهم بها أقطاب العالم. وكذلك أن نجد أنّنا ما زلنا نعيش في أوطان يمكن أن يقتل فيها رجل قادرٌ رجلاً أقلّ قدرة، لأنّه تجاوز سيّارته على الدوّار!
في سياق آخر، لابدّ من الإشارة إلى أنّ شرطة المرور في مدينة مادبا قد بدأت تعمل بعد جهود مكثّفة، بخريطة مروريّة جديدة، سهّلت وصولنا إلى عملنا، وحفظت وقتنا وسلامتنا من مغامرات قياديّة خطرة، لكن رغم ذلك لا يتورّع سائق لسيّارة كتب عليها جمعيّة كذا الخيريّة، من أن يتوقّف في منتصف الطريق بلا أدنى إشارة، فيفتح الباب، وينزل ويترك السائقين الآخرين في حالة تعطيل وذهول، في خضمّمعركة من الشتائم والزمامير، ويدخل آخر إلى البقّالة ليشتري شيئاً بالسرعة القصوى، فينسى نفسه نصف ساعة، وقد أغلق طريق الآخرين غير عابئ بالتزاماتهم، وحينما تقابله بعد العثور عليه باحتجاج منصف، كونك تعرف القوانين التي يتجاهلها، ينظر إليك بازدراء، لاسيّما إذا كنت امرأة!
________
*عن “عمّان.نت”