*أحمد ثامر جهاد
خاص- ( ثقافات )
حاول المخرج رودريغو غارسيا ابن الروائي الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز بناء فيلمه الموسوم (تسع حيوات- إنتاج 2005 ) وفق مقترب سينمائي يشابه طرائق السرد الأدبي لمجموعة قصص قصيرة تنتظم في سياق فني يخالف إلى حد معين ما اعتدنا مشاهدته من أفلام نمطية. فنحن إزاء تسع قصص كما يشي عنوان الفيلم،لكل قصة منها حياة خاصة،مثلما ان لكل حياة قصتها أيضا.وكانت نزوات القص الماركيزي المباركة قد علمتنا ان حكاية واحدة قد تكون غير كافية أحيانا لقول كل شئ،إذا ما كان في الأفق ثمة خيال جامح وألم ابدي.
ومنذ البداية يشعر المشاهد القارئ ان الشبه بين المخرج رودريغو غارسيا البالغ خمسين عاما وبين الأب ماركيز يكمن في الرغبة المهيمنة على كليهما في رواية القصص،ولا غرابة في ذلك فهم أبناء القارة اللاتينية الساحرة،رغم ان رودريغو كما يتضح في هذا الفيلم يفتقد إلى الخبرة والتقنية التي صنعت مجد عرابه الكولومبي.لاسيما ان إيقاع الفيلم الذي ضم نجوما معروفين (غلين كلوز،ايدن كوين،هولي هنتر) يضيع أحيانا لصالح رتابة لا تنسجم وبنائه اللافت.لكن رودريغو مخرج وكاتب الفيلم حاول في المقابل تقديم صورة سينمائية عن عالم تشظت فيه العلاقات الإنسانية،من خلال قصص منفصلة تعرض لأناس يشتركون في تقاسم مرارة تجاربهم الحياتية.
تسع حيوات ضائعة:
يعمل الفيلم على تنظيم الانتقالات السردية بين قصة وأخرى ضمن فكرة أساسية تسعى لبلورة مواقف الإنسان وسلوكه إزاء ما يحدث حوله.وعقب استيعاب جرعة القصة الأولى نكون جاهزين لتلقي بقية القصص التي تتجاور تارة وتتداخل من بعيد تارة أخرى،ودوما وفق ترتيب حكائي قابل للتأخير والتقديم والتلاعب من دون ان ترتبط القصص جوهريا بمصائر شخصيات محددة.
يقدم المخرج حيوات تسع نساء في تسع مقاطع فيلمية معنونة بأسماء شخصياتها الأساسية التي تأخذ وقتا متساويا في عرضها على الشاشة.ومنذ القصة الأولى ندرك ان الفيلم غير معني بتقديم صورة كاملة عن حياة الشخصية التي يعرضها،فلا احد يعرف شيئا عن ماضي الشخصية أو سلوكها،وإنما هي متاحة فقط لاستيعابها وتفكيكها وتخيل ما هو غائب عنها سرديا، بشكل يبرر للفيلم اختيار لحظات أو مواقف أو مشاعر محددة لشخصياته كي يكسوها لحما في الدقائق العشر تقريبا التي يمنحها لكل حكاية.وربما يجد المشاهد ان كل قصة من تلك القصص يمكن اختزالها في لقطة فوتوغرافية معبرة تختزن مغزاها بما يشبه الأحجية.
تتحدث أولى قصص الفيلم المعنونة (ساندرا) عن سجينة في منتصف العمر تنتظر بشغف كبير زيارة ابنتها،ورغم اجتهادها في إظهار سلوك حسن قبيل الزيارة المرتقبة إلا أنها تتعرض لقسوة إدارة السجن وتعاملها البغيض،بصورة تجعلها تفقد أعصابها في فورة غضب مفاجئة تحرم بسببها من لقاء حميم طال انتظاره.
وفي قصة (ديانا) نتعرف على امرأة حامل تلتقي بالمصادفة عشيقها السابق (داميان) في سوبرماركت تجاري وقد تزوج كلاهما عقب سنوات من الانفصال.تتحدث الشخصيتان بحنين خجول عن الماضي الجميل الذي جمعهما سابقا،ورغم ادعائهما الكاذب بسعادتهما الحالية الا انهما يفشلان في إخفاء جذوة مشاعرهما التي ما زالت متأججة.
في قصص لاحقة يعمد المخرج إلى خلق علاقات أخرى بين بعض الشخصيات ويترك للمشاهد الاستمتاع باكتشافها،فـ(داميان ) الذي ظهر كعشيق سابق في قصة ديانا يعود للظهور ثانية بشخصية الزوج في قصة (سونيا) التي تصور أزمة زوجين دعيين يحلان كضيفين ثقيلين على داميان وزوجته ليزا.سوء الطوية بين هؤلاء الأزواج يحول السهرة العائلية إلى مكاشفة ذاتية واتهامات غير مرغوبة تزيد الوضع سوء.
في حين نتعرف في قصة (سامانثا) على فتاة مراهقة حائرة بين تلبية حاجات والدها المعاق والموافقة على ثرثرة أمها المستفزة.فتوزع الفتاة وقتها في سماع تلك الأحاديث المملة وتحلم بامتلاك لحظتها الخاصة. إما في قصة (روث) فإننا نفاجئ بظهور والدة سامانثا ثانية ضمن استمرارية مقصودة،لكنها هذه المرة تلتقي في موعد غرامي مع عشيقها الذي يستأجر غرفة بأحد الفنادق الرخيصة لتمضية هذه الليلة.وبانتقالة سريعة تخرج روث من الجو العاطفي الذي كانت فيه إلى واقع قاس حينما تشهد بتعاطف لحظة اعتقال الشرطة لفتاة مجهولة من غرفة مجاورة ولسبب غير واضح.يترك باب الغرفة مواربا، وتغيب الفتاة عن المشهد مخلفة وراءها فردة حذاء يتيمة.
القصة الثامنة تتحدث عن امرأة تدعى (كاميل) مصابة بسرطان الثدي وتنتظر إجراء عملية جراحية لها.يتصاعد قلقها الداخلي،فيما لا تثنيها تطمينات الزوج عن الشعور بان الإنسان ليس سوى كومة عظام وأحلام مشوهة.
من المهم التأكيد هنا ان بناء سينمائيا من هذا النوع ملزم بتحديد زمن قصير لكل حكاية يكون غير كاف لخلق تعاطف مع شخصيات الفيلم الأساسية،فما ان تتكشف خيوط القصة وتتضح شخصياتها حتى تغيب عن الشاشة مع تصاعد أنغام مؤثرة تعلن إسدال الستار إيذانا بظهور حكاية جديدة.من هنا فان بناء هذا الفيلم لا يراهن على التأثير المباشر للقصص التسع،بقدر مراهنته على الانطباع الكلي الذي تخلقه هذه القصص مجتمعة.
يمكن ان تعد القصة السادسة المعنونة (لورنا) اشد قصص الفيلم غرابة وأقربها إلى الروح الماركيزية،وفيها تذهب الفتاة لورنا مع والديها لتعزية زوجها السابق بوفاة زوجته.وفي مراسيم توديع الجنازة يشاهد الزوج الأصم زوجته لورنا وهي تنحني بحياء فستانها الأسود أمام تابوت الزوجة في تحية وداع أخيرة.ما هي إلا لحظات حتى يولد اشتهاء مفزع تلهبه أجواء الحزن الظاهر،يدفع الزوج الأرمل للاختلاء بزوجته الحسناء في إحدى غرف المنزل الذي يعج بالمعزيين.ترضخ لورنا لرغبة الزوج الذي بدا متوسلا،ذليلا،هائجا لمجرد التفكير بمضاجعتها في هذا الوقت وبهذا المكان. يشعر الزوج بين ساقي لورنا المستلقية بنشوة محرمة تغذيها مشاعر الفقدان والخيانة،فيما تستسلم الزوجة لأحاسيس مشوشة.ربما يجد البعض في هذه القصة مبالغة فجة،لكن إشارات صغيرة فيها قد تتيح لآخرين التفتيش عن سر جاذبيتها بقراءة سيكولوجية طموحة.
وكما يفعل بعض كتاب القصة يحاول المخرج رودريغو غارسيا ادخار أشد قصصه اقتصادا ورمزية لتكون حكاية الختام. القصة التاسعة المعنونة (ماغي) تصور أم وابنتها الصغيرة تستمتعان بنزهة عادية في مقبرة واسعة لا يسمع فيها سوى حفيف الأشجار العملاقة. تسأل الفتاة والدتها: هل صحيح ان للقطة تسع أرواح؟
– أظن انها واحدة.تجيب الأم.وتنتهي الحكاية.
كانت الحكايات التسع كما الحياة مليئة بالخيبات والآلام،والخواء وحده هو من رسم مصائر شخصياتها الضائعة في صورة كبيرة موحشة.
هل يمكن لنا ان نتخيل كيف يمكن لهذه الحكايات التسع أن ترتحل في عودة غير مأمونة متحولة من فضاء الصورة إلى فضاء الكلمة؟
اذا اردنا التفكير مليا بهذه المسالة التي تحتمل الخلاف سيكون من المناسب التذكير هنا ان غارسيا ماركيز عينه هو من قال في ورشة كتابة السيناريو” إن من يقرا رواية هو أكثر حرية ممن يشاهد فيلما..”