هنا أفغانستان… الرقة سابقا! (1)


إبراهيم الزيدي



كما يتابع المغرمون بكرة القدم أخبار المونديال، نتابع أخبار الرقة! وكلما هزّت كرة اللّهب مرماها، نتسابق إلى مقاهي الإنترنت، نفتح صفحة «تعازي الرقة «، ونبحث عن أنفسنا بين الضحايا، تلك هي قصة الحب حين يصبح ممنوعاً من الصرف.
كطفل يحلم بالمدرسة قبل أن تنمو حقيبته بين كتفيه، كنت أحلم بزيارة الرقة، الرقة ـ المكان، وليس الأهل أو الأصدقاء، الرقة ـ الذاكرة، وليس البيت أو الشارع أو النهر، الرقة- البعيدة، وليست التي تستوطن الروح، رقة ـ الموضوع، وليس بيانه.
أريد أن أرى أبناء النسيان الذين كبروا بعيداً عن عينيّ، أن ألمس أوجاعهم بقلمي قبل أن يكتبهم الغرباء، وينثرونهم على صفحات الجرائد بعشوائية مدن «البيدونفيل»، أريد أن أعود إليها لأعيش ثانية تلك الرعشات التي تتسلق العمود الفقري، وتسري في جسمي خليّة .. خليّة، كنت كطفل وقع في حب حذاء رياضيّ في واجهة أحد المتاجر، أغدو.. وأروح أمام البولمان الذي سيغادر الكراج حين يستكمل نصاب الركّاب، كانت برفقتي ابنتي الصغيرة، اقتادتني لتبتاع ربطات ملونة لشعرها الخرنوبي الطويل، فتركت يدها في محفظة نقودي، وغادرت.. فأنا لا أريد أن أعيش أربعا وخمسين عاماً، إلاّ حلما، وقد كانت الرقة حلمي .
أخذت مقعدي في النصف الأخير من البولمان، إلى جانب رجل في الأربعين من العمر، بدت عليه علامات التعب، رأيته يتحدث إلى رجل آخر قبل أن نصعد إلى البولمان، وقد تناهى إليّ من حديثهما أنه كان يوصيه أن يبيع شيئاً ما، إذ أنه كان يقول له «بغالي.. برخيص.. مو مشكلة، المهم بيعها.. مثل مانك شايف ما بقي معنا شي، وجانا الشتا والمدارس»، عرفت في ما بعد أن الذي كان يتحدث إليه هو ابن عمه، وان ابن عمه هذا غادر الرقة منذ سنتين، وقد مسّه العوز، فالغلاء في سوريا لم يعد يتناسب مع دخل الناس، ولديه شقة سكنية في الرقة، هي كما يقول: «الحيلة والفتيلة» أي أنها كل ما يملك، وقد كلفه ببيعها ليستعين بثمنها على متطلبات الحياة.
كان الطريق إلى الرقة طويلا فملأناه أنا وذلك الرجل بالحكايا، إلى أن تجاوزنا مدينة السلمية، ووصلنا حاجز «إثريا» وهو أول حواجز «داعش» وأقواها أمنياً، حيث التدقيق يكون على أشده، فتملكني الخوف، لدرجة أعطيت لشريكي في المقعد عدة أرقام هواتف أرضية ونقالة، منها في الرقة، ومنها في محافظات أخرى، ورجوته أن يتصل بهذه الأرقام إذا تم اعتقالي، فسألني إن كنت مطلوباً لهم، فأجبته بالنفي، وأخبرته إنني أشكو من رهاب الحواجز الأمنية، لم أشأ أن أخبره بعملي الصحافي وذهبت في إقناعه مذاهب شتى، حين تجاوزنا الحاجز أخبرني إنني أصبحت بأمان ،لأن بقية الحواجز تعتمد على ذلك الحاجز إدارياً وأمنيّاً، علماً بأنني لم ألاحظ ذلك التدقيق الذي يدل على الأهمية الأمنية والإدارية لحاجز « إثريا»، وعزوت ذلك إلى خبرتهم في ملاحظة ما يخشونه، وليس إلى إهمالهم، واللافت في الأمر أن ذلك الحاجز لا يبعد عن حاجز ما يسمى اللجان الشعبية، وهي رديف للحواجز العسكرية الرسمية، مسافة كيلومتر واحد! حين غادر البولمان ذلك الحاجز، رحت أتأمل من النافذة مساحات الحنين الشاسعة، وأنا أفكر بالحاجز التالي، حاجز «المنصورة» الذي يبعد عن الرقة /35/ كم، والذي لم يختلف عن سابقه إلا بعدد العناصر، فهناك كان العدد أكثر، ولا وجود لسلاح ثقيل على الحاجز، فقط الأسلحة الفردية التي يحملها العناصر، لم يهدأ وجيب قلبي حين غادرنا الحاجز كما كنت أعتقد، بل ازداد، كنت بين حالتين، حالة الخوف من أن يتعرف عليّ أحد عناصر الحاجز الأخير، واللهفة ليس للقاء الرقة، بل لمعرفة ما يجري فيها.
كنت أفرك يديّ ببعضهما كعادتي حين أرتبك، فمسافة الـ/ 35 / كم التي تفصل المنصورة عن الرقة، كانت بعيدة.. وبعيدة جداً، على ما يبدو أن القلق والتوتر والخوف هو الذي جعل الزمن ثقيلاً لتلك الدرجة التي لم يسبق لي أن خبرتها. 
لم يكن حاجز القرية الذي يقع في مدخل المدينة يختلف عن سابقه، فارتديت ذاكرتي وتظاهرت بالنوم ونحن نقترب منه، حيث كانت القرية هذه أحد منتجعات الرقة، فهي كافيتريا ومطعم وملعب أطفال، كان يزدحم صيفاً بالميسورين، الذين يغدون إليه برفقة عائلاتهم، فمساء الرقة وليلها ينتقم من حرارة نهارها بأنسامه العليلة، وها هو يتحول إلى محطة تفصل الناس عن أحلامهم بالمغادرة أو العودة! توقف البولمان وصعد إليه أحد عناصر «داعش»، نكزني شريكي بالمقعد، طالباً مني إبراز بطاقتي الشخصية، فلم أرد عليه، وتركت الشماخ الذي كنت قد لففت به رأسي، يتهدل على جانبي وجهي، وفغرت فمي، متظاهرا بالنوم، وتركت لأذني متابعة ما يقال من كلام، كانت لهجة العنصر الذي صعد إلى البولمان «رقاوية» فاجتاحتني موجة خوف شديد، إلا أن جدله حول أهمية اللحية في الإسلام، مع راكب حليق الذقن في المقعد المجاور، جعله ينسى أن يطلب بطاقاتنا، وقد عرفت في ما بعد أن التدقيق الأساسي يكون في حالة الخروج من الرقة، وليس أثناء الدخول إليها.
كان كراج البولمان مزدحماً بالناس، والغالبية منهم رجال، كانت نسبة النساء لا تتجاوز 10% إذ أن المرأة المسافرة تحتاج إضافة لمحرم يرافقها، إلى موافقة جهاز الحسبة «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وهذه الموافقة للحصول عليها تحتاج المرأة إلى مبرر شرعي وموضوعي، عادة يكون مراجعة مشفى، وهذا يقتضي حصولها على كتاب رسمي من المشفى العام، الذي هو المشفى الوطني في الرقة، ذلك المشفى الذي أعيد تأهيله بإشراف بروفيسور أسترالي، وصار اسمه «المشفى العام» ا، وأصبح الدخول إليه بأجر رمزي، وكذلك الخدمة الطبية فيه، وعائداته المالية تعود إلى خزينة ديوان الصحة. 
أما الذكور فإن التركيز يكون على مواليد 1990- 2000 فمواليد الأعوام التي تقع بين هذين التاريخين يطالبونهم بدفاتر خدمة العلم، ويصادرونها إن وُجدت، ويكثرون عليهم الأسئلة، فإذا تبين أنهم من طلبة الجامعة فإنهم لا يسمحون لهم بالمغادرة، خاصة إذا اكتشفوا أن المسافر من طلبة كلية الحقوق أو الصحافة، آنذاك يصبح لهم شأن آخر معه، فطلبة كلية الحقوق يعتبرون كفرة، لأن كلمة قانون تنافي الشريعة، أما طلاب الصحافة فإنهم يخشون من أن يكتبوا عنهم، وهنا لا بد من ذكر الـ/ 15/ ألف طالب، وهو مجموع طلبة الرقة، الذين أصبح مستقبلهم في مهب النزاعات والفتاوى! خاصة في السنتين الأخيرتين، إذ أن «داعش» أغلقت الجامعات والمعاهد والمدارس كلها، ومنعت التعليم حتى في البيوت، وهذا ما جعل الناس الذين يستطيعون تأمين متطلبات حياتهم بعيداً عن الرقة، يغادرونها إلى المدن الأخرى، ليلتحق أبناؤهم بالمدارس، خاصة طلاب نهاية المرحلة الإعدادية والثانوية، وقد سبق وحاولت جبهة النصر إغلاق كليات الرقة، إلا أن الطلبة تصدوا لها بمظاهرات عارمة، مما حدا بجبهة النصرة التراجع عن تلك المحاولة، حدث ذلك في نهاية العام الدراسي 2013، بيد أن الحال اختلف كثيراً بعد سيطرة «داعش» على المدينة، فالتنظيم يعتقد أنه بتلك الخطوة سيدفع بالشباب إلى العسكرة، وهي أحد مقومات استمرار الحرب. 
وثمة تدقيق على لحى الرجال ولباسهم، وفي هذه الحالة لا توجد قاعدة للتعامل، فقد يكتفي العنصر الداعشي بأن يلقي عليك محاضرة توبيخية، إن لم تكن لك لحية، وقد يقص لك شاربك إن كان لك شارب، وقد يكتفي بأن ينصحك بأن تكون لك لحية. وقد رأيت أن غالبية الرجال تركت ذقونهم تنمو، ولم أر أحداً بالجينز الضيق أو سواه من الألبسة التي لا توافق عليها القوانين السارية في الرقة في ظل «داعش»، أما النساء فقد تحولن كلهن إلى كتل من السواد، فالمرأة لا يبدو منها سوى عينيها، وهذا ما لم يكن متداولا في الرقة قبل سيطرت «داعش» عليها، فالرقة من المدن المحافظة، وبالنسبة للعقيدة فهي مدينة محافظة بطريقة وسطية، لا تعصب فيها، لذلك وجد فيها الأرمن والمسيحيون وغيرهم مراحهم، وكان اللباس التقليدي فيها هو السائد، وهو لباس محتشم جداً، إلا أن شريعة القوة على ما يبدو أجبرت الناس على ارتداء تلك الأزياء الدخيلة عليها. 
فأرخيت لثامي، ويممت شطر المدينة التي لم أرها منذ سنتين ونيف، متحاشياً المرور من أمام الأماكن التي ممكن أن يتعرف على أحد فيها.
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *