*سهام العبودي
خاص ( ثقافات )
مساء الثاني والعشرين من أكتوبر 2013م، شمسٌ خريفيَّة تسطع على ميادين بوخاريست المزدحمة بالعائدين من أعمالهم، وزحام المبنى رقم (7) يدفعنا إلى الانتظار وقوفًا على السلَّم الدائري الضيِّق الذي يؤدي إلى العيادة، كانت عيادة العيون تغصُّ بمراجعين أغلبهم من كبار السنِّ. في منتصف السلِّم وعلى عتبتين متجاورتين اجتمعنا: سيِّدة رومانيَّة تجاوزت الخمسين، وأنا، لا أتذكَّر السؤال المفتاح الذي طرحتـُه لكنـَّه كشأن المفاتيح الصالحة قادني إلى حيث ينبغي، ردَّت بإنجليزيَّة متقنة، وعرفت – لاحقًا – أنـَّها تدرِّس اللغة الإنجليزيَّة في إحدى ضواحي بوخاريست، كانت العيادة ضيَّقة وتشغل مبنى قديمًا في وسط المدينة، وحين قالت – بعد حديث قصير عن الازدحام – : “إنَّ على الطبيب أن يبحث عن عيادة أخرى كي تستوعب هذا العدد الهائل من المراجعين” قلت: إنَّ الأمر سيكون محزنـًا؛ لأنَّ المبنى جميل، وأنا أحبُّ أن أتأمل هذه المباني العريقة التي تملأ وسط المدينة؛ إنها فكرة مدهشة أن يتمتـَّع المرء بالنظر إلى هذا الجمال المدنيِّ العتيق بعد أن يعالج عينيه، الإنسان يحصل على علاج مضاعف حين يحدث هذا!.
زادت حماستها، وتألق وجهها الذي ما زال نضرًا، وقالت بفخرٍ: إنَّ جمال بوخاريست هذا هو الذي أكسبها لقب (باريس الصغيرة) (little Paris)، وذهبت في طريق أخرى حين أخبرتني أنَّ مخرج فيلم (كالاس إلى الأبد) صوَّر مشاهد من فيلمه في بوخاريست على أنـَّها تجري في (باريس الكبيرة)؛ وهذا لشدة التشابه بين المدينتين، مع انخفاض تكاليف التصوير في بوخاريست!
حين أطوف بشوارع وسط بوخاريست تصاحبني فكرة قديمة نبتت في عقلي، كنت – وما زلت – أؤمن أنَّ المدن تبدو في كامل عافيتها حين تحافظ على شباب قلبها، ومع أنَّ بعض المباني التي لا أتوقـَّف عن تأمُّل جمالها في قلب بوخاريست تتجاوز في عمرها قرنـًا، أو أكثر إلاَّ أنـَّها تبدو بكامل روعتها، وليس الأمر أنـَّها محجوزة على نحوٍ متحفي للنظر والتأمُّل، وحسب، بل هي حيَّة تمامًا، تبدو وكأنـَّها ابنة اليوم، روح الحياة تنبعث من الملابس الملوَّنة الرطبة التي تتعلَّق في الهواء أمام الشرفات، ومن أصص الورد النضر الذي يحشو حواف النوافذ بالحياة، من وشاية الضوء، ورقص الستائر في أمسيات الصيف على وقع الرياح، من طوفان البشر الذي يملأ المقاهي، وينصت إلى صوت الحياة فيها، إنـَّها صورة قلب المدينة في حالته المثالية، أمرُّ وأنا أردِّد في روحي: كم هي بائسة، ومتحجِّرة تلك المدن مخطوفة القلب!.
بعيدًا عن جمال (باريس الصغيرة)، وقلبها النابض بالحياة، – وقبل أن يحين دورنا في الدخول – كان حديثنا ينصبُّ على الأدب، قالت: إنـَّها لم تقرأ – لسوء الحظِّ – نصوصًا من الأدب العربي، حين تخرَّجت في تخصُّصها كانت رومانيا تخضع – شأن دول أوربا الشرقية – لنظام حكمٍ شمولي، وكانت هناك صعوبة في التوصُّل إلى مؤلفات لكتـَّاب عرب، اقترحت عليها أسماء كتـَّاب ممن يغلب على ظنـِّي أنها ستجد ترجمة إنجليزيَّة لأعمالهم، وحين ذكرت اسم الروائي المصري نجيب محفوظ، وجئت إلى سيرة فوزه بجائزة نوبل بدت وكما لو أنها تذكَّرت شيئـًا، وقالت: إنـَّه وقت إعلان جوائز نوبل، كانت الجائزة قد أُعلن عنها بالفعل، الكنديَّة (أليس مونرو) هي الفائزة في ذلك العام، كان اسم (مونرو) جديدًا في عالم الأدب بالنسبة إليَّ، على السلَّم الضيِّق أضمرت كلُّ واحدة منـَّا نيَّة قراءة (مونرو)، نيَّة واحدة في قلبين التقيا للتوِّ، قلبين غريبين عن بعضهما يعبران جسرًا واحدًا هو الأدب!.
كان الحديث عن الأدب هو الذي استغرق معظم الوقت، وكان فضولي شديدًا لمعرفة وضع رومانيا، وجدت نفسي أسألها – من وحي أدبيٍّ خالص – عمَّا إذا كان الأمر يشبه الحياة التي صوَّرها جورج أورويل في روايته (1984م): الصورة الديستوبيَّة المفجعة للحياة تحت ظلِّ الحكومات الشمولية المتسلِّطة؟ قالت: إنَّ الوضع كان سيِّئـًا دون تفصيل. بدت أكثر بهجة وهي تتحدث عن (مزرعة الحيوان) لأورويل أيضًا، وقالت: إنـَّها كانت تعرض فيلم الرسوم المتحرِّكة المأخوذ عن الرواية في صفوف اللغة الإنجليزيَّة التي تدرِّسها.
***
إنَّ الذي يحدِّثك عن كتاب لم تقرأه يتدخـَّل – عفوًا – في تاريخك القرائي؛ كلُّ ما سيقال هو غلافٌ (افتراضي) مسبق: مصافحة أولى شديدة الحساسيَّة؛ الظروف التي تؤلِّفها الأقدار هي التي تحدِّد طبيعة وقوفك بعتبة كتاب ما، تتلهَّف لمعرفة شخصيَّة في رواية لأنَّ هناك من وشى بها عندك، تصنع موقفـًا تجاه مؤلَّفٍ لأنَّ هناك من جعلك تحبُّه/تكرهه قبل أن تقرأه! إنَّ هذا – كما يبدو – يمدُّ سلسلة القرَّاء لأيِّ كتاب، أو يقطعها! الأحاديث العابرة، والملاحظات يمكن أن تكلِّف الكاتب قارئـًا؛ كم مرَّة عثر كتابٌ على قارئه بسبب ملاحظة، وكم مرَّة فقدَه بسببها إلى الأبد؟!
فيما يتعلَّق بتاريخي القرائي الخاصِّ فإنَّ هذه الوقفة (السُّلميَّة) في قلب بوخاريست عرَّفتني على (ميرندا) البطلة قويَّة الشخصيَّة في رواية (جامع الفراشات)؛ كانت السيِّدة الرومانيَّة تأخذني إلى رأس قائمة رواياتها المفضَّلة حين تحدَّثت عن (جامع الفراشات): عن البطلة التي أسرَتها، عن جنون الهوس الإنساني، وبخفَّة دردشتنا العفويَّة التي قطعت الوقت أنهيت قراءة الرواية بعد هذا اللقاء بوقت قصير، ولم أستطع أن أفصل الرواية عن هذا اللقاء، إنـَّها – فيما يبدو – اشتراطات الوجود/العثور؛ أنـَّك إن عثرت على شيء ما فستبقى ممتنـًّا للإشارات، أو الظروف التي قادتك إليه، وهكذا تعلَّق الأمر في ذهني على هذا النحو: جون فاولز المؤلِّف الإنجليزي صاحب رواية (جامع الفراشات) مرتبطٌ بهذا اليوم، في حضرة امرأة لا أعرفها، في موقف غير مخطَّط له، في مكان لم يخطر لي أن أكون فيه في يوم من أيام حياتي. الفكرة الأكثر دهشة التي استولت عليَّ لاحقًا هي القدرة الخارقة التي يمتلكها الأدب، الأدب الذي يقاطعنا في ممرَّاته، ويجعلنا قادرين على الالتقاء، الأدب هو أكثر ما أنتجته الإنسانيَّة إنسانيَّة: أن نتجاذب – على اختلاف هويَّاتنا، ولغاتنا – أطراف حياة كلِّ هؤلاء الأبطال، أن يستيقظ بطلٌ تحت هذه العيون التي تنتشر في العالم، عيون تفصلها كلُّ تلك المسافات: عيون في الشرق، وأخرى في الغرب، إنـَّها لمسألة كبرى: أن يحدث الأدب نفسه في كلِّ مكان، يحدث بالطريقة نفسها، لا يتقنَّع، ولا ينتحل هويَّة أخرى، تقع أعيننا على الشيء نفسه، على طبيعته الأصيلة، وتتسلَّل إلى وعينا الأفكار ذاتها، يؤثــِّر فينا، يشابهنا في سعة الاختلافات التي لا حصر لها بيننا، يمنحنا المشاعر الإنسانيَّة الكامنة تحت ظلِّ الكلمات: الوجع الذي ينبجس في الروح وهي تمرُّ فوق حافة القصيدة الجارحة، أو الهمهمات الراضيَّة التي تبعثها النهايات السعيدة للحكايات!.