*محمد إسماعيل زاهر
كيف يمكن للثقافة أن تواجه قوى التعصب والانغلاق؟ سؤال تحتاج الإجابة عنه إلى عصف ذهني ينخرط فيه الجميع، من دون ترديد أو إعادة تدوير لتلك المقولات التي نسمعها كل يوم، من قبيل أن الثقافة تنفتح على التنوع والتعدد وترسخ للتسامح مع الآخرين، أو أنها في حد ذاتها مناقضة للجمود والتخلف والتراجع، أو أن الثقافة مفردة لغوية أو اصطلاح متداول مرادفة للتنوير، أو أنها مفهوم يدل تلقائياً على النهوض، إلخ، وهي مقولات/ شعارات ازدهرت خلال السنوات الأخيرة لإبراء الذمة إزاء غياب فعل ثقافي حقيقي، والملاحظ أن فترات النهضة العربية في العصر الحديث المتقطعة والموزعة على قوس زمني يمتد لأكثر من قرنين لم تشهد مثل هذه المقولات، حيث كانت الثقافة ومعها قوى المجتمع كافة تتعاطى مع هذه الشعارات بوصفها تجليات طبيعية لمجتمع ينشد التقدم .
تتطلب الإجابة خبراء من الحقول المعرفية والمجتمعية كافة، خبراء يطرحون الأسئلة ويقدمون البدائل الجديدة والمغايرة للسائد، لا الرؤى المعلبة والمعروفة سلفا، فما هي الأدوار المنوطة بالتعليم؟ ولماذا تحسنت نوعيته وصاحب هذا التحسن تراجع معرفي واضح، ولماذا لم ينتج كل هذا الاهتمام بالتربية تلك التجارب الإبداعية التي توقعها الكثيرون؟ ولماذا تتزايد الأمية الثقافية في ذلك العصر المتميز بطوفان وسائل الإعلام؟
تستلزم الإجابة النقد الذاتي الحقيقي الذي يدخل في دائرة سؤال: لماذا لا تتجاوب مجتمعاتنا مع الثقافة، أو لماذا لا تستمع إلى المثقفين أو تأخذ بما يطرحونه؟ فالإجابات عن هذا السؤال أدت، وستؤدي إلى إلقاء المسؤولية على الأطراف كافة باستثناء المثقف نفسه، فمرة هناك أنواع عدة من الرقابة تمنع المثقف من التفاعل مع محيطه، ومرة هناك لائحة من الأسباب التي تؤشر إلى ضغوط الحياة المادية، أو العولمة، أو المراوحة الحضارية بين الأنا والآخر، أو التغريب، أو وسائل الاتصال فائقة الحداثة، أو سطحية الأجيال الجديدة . . . إلخ .
هنا أيضاً سنعثر على قائمة من المعيقات التي أنتجتها أدبيات النقد الذاتي التي لم تتوجه إلى المثقفين بقدر تركيزها على مجتمعات رسمت لها دائماً صورة سلبية، مع ملاحظة أن عناصر تلك الصورة ليست بجديدة، فالرقابة وعلاقة المثقف بالسلطة وغيرها من المعيقات المختلفة وجدت أيضا خلال تلك الفترات التي أشرنا إليها سابقاً، ومع ذلك لم تكن أوضاع الثقافة أو المجتمع أو العلاقة بينهما بهذا التردي والتراجع، هو النقد الذي لم يكن صادقاً مع النفس في يوم من الأيام، وجاءت وقائع ما سمي بالربيع العربي لتكشف تهافت هذا النقد، وتؤكد أن الثقافة العربية تعيش أسوأ لحظاتها، وأن جذر الإشكالية يعود إلى ساحة ثقافية تنتظر من يتحدث بصراحة عن أفقها الفكري ويرصد شبكة العلاقات التي تحكمها ويتتبع القيم المهيمنة عليها، وهو ما أدى إلى انتكاسة ذلك الربيع والتي يتملص مثقفونا من مسؤوليتها أيضاً .
تستدعي الإجابة حزمة من الأسئلة المتعلقة بسيادة قيم التسامح داخل الوسط الثقافي نفسه، فإلى أي مدى لا يقصي بعضنا بعضاً؟ وإلى أي مدى لا ننخرط في شلل وجماعات تتصارع من أجل مصالح شخصية؟ وحزمة أخرى من الأسئلة ترتبط بجزء من المسؤولية تقع على عاتق المثقفين أنفسهم في ما يخص الصعود السريع والسهل للقوى الظلامية، فجانب كبير من المنتج الإبداعي والفني خلال العقود الماضية رسخ للاعقلانية، وربما الجهل والقبح .
لا يمكن الإجابة عن سؤال مواجهة قوى التعصب والانغلاق من دون البدء بمراجعة ذاتية شاملة، مراجعة حقيقية وصادقة، حتى لا نجتر الأفكار والطروحات والرؤى التي قتلناها بحثاً، وأوقعتنا في الأخطاء نفسها .
________
*(الخليج الثقافي)
شاهد أيضاً
العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة
(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …