طاهر علوان
لا علاقة ظاهرية بين فيلم “2047 مشاهد الموت” لألساندرو كابوني (إنتاج 2014) وبين رواية “1984” لجورج أورويل، ولكن ثمة صلة عضوية بين الاثنين، عن ذلك المسخ الإنساني والمكاني الذي تحدث عنه الفيلسوف بول ريكور يوما، عن العدمية المتفاقمة التي تريد محو الوجود الجمعي إلى الوجود الفردي القادر على تطبيق فكرة الهيمنة.
العالم بعد ثلاثة عقود ونيف من الآن، هو موضوع هذا الفيلم ولنا أن نتخيله، ذلك العالم بصراعاته وتقلباته، إلى أي حال سيؤول عندما تتساقط الأمم تباعا في حروب لن يعرضها الفيلم، لكن يعرض مخلفاتها ونتائجها، تلك “الديستوبيا” والعسكر “الموتورين” الذين يمارسون القتل بشهوة جامحة، ولا يهمهم أي نوع من التحالفات يمكن أن يقيموها في ظل البراغماتية السياسية.
هنا سيقيم الجنرال أزيموف (الممثل روتغر هاوار) بوجهه المجعد وعقله الشيطاني تحالفا مع مرتزق وكائن مافيوزي يسيل لعابه وراء مصالحه، وهو الممثل مايكل مادسن في دور المرتزق لوبو، ليكمل مسيرة أكثر من ثلاثين فيلما امتدت منذ مطلع الثمانينات حتى الآن.
الشرطي الكوني أزيموف والمرتزق لوبو سيطفئان أي بصيص نور لكشف الحقيقة، يطاردون خصومهم بلا هوادة لطمس جرائمهم، وتلك سنة درجت عليها الحكومات والأنظمة الاستبدادية كابرا عن كابر.
هنا ثمة هرم من جثث الأبرياء الذين أبيدوا عن بكرة أبيهم في مبنى ملوث بالإشعاع، والناجون لديهم إمكانية الحصول على المصل الذي يبقيهم أحياء، وبالطبع هو مصل برسم ذلك الشرطي الكوني وصاحبه، فيما يقارعهما داعية سلام وباحث عن الحقيقة وهو الكابتن رايان (الممثل ستيفن بالدوين)، وهما كفتا الصراع.
ورغم أننا نشاهد صور الخراب وقد ضربت العالم من خلال عينة محددة، هي ذلك المبنى المتهالك الذي كان مقرّ قيادة وسيطرة يوما ما، إلاّ أنه سيستعيد وظيفته وستعود التكنولوجيا الرقمية ووسائل الرصد لتعقب رايان الذي يريد توثيق الحقيقة بالتنسيق مع أبيه الروحي سبونج، ثم مع الفتاة تواغ (الممثلة نيفال يونز) وهي الناجية الوحيدة والشاهدة على الإبادة الجماعية.
“إذن فإن نعوم تشومسكي كان على حق وجماعة أنونيموس من الهاكرز كانوا دقيقين، وكذلك كيم دوت كوم والبرجان العالميان وكذلك ويكيليكس وويكيبيديا وكل أنواع الويكي، كل هؤلاء رأوا التغيير في العالم، العالم الحر وفي كل الأحوال، ثم هنالك أناس ميتون ومنسيون”، هكذا يكتب الكهل سبونج (الممثل داني كلوفر) تلك الكلمات في دفتر مذكراته ليفصح عن مقدمات الانهيار العظيم.
هو الباقي على سطح الكوكب وبضعة آخرون في منظمة غير حكومية، لكشف جرائم تلك الحكومة الكونية في حق الأبرياء، يرصد ذلك الانحدار الذي أصاب الكوكب ويحاول جمع الأدلة عن الضحايا، واسترجاع ما خزنته ذاكرة القمر الصناعي من حقائق مروعة، لكن القمر الذي جعلته سلطات الحكومة العالمية ينتحر ذاتيا! ويبدأ الصراع بين أطراف الأزمة في ذلك المبنى المتهالك من أجل الحصول على تلك الشرائح من الذاكرة التي بقيت بين حطام القمر.
يمضي السرد الفيلمي في عرض قضية إشكالية متفجرة وخطيرة لا تتعلق فقط بالناجين من الخراب، بل بالعقل الذي أحكم سيطرته واستبداده على العالم من خلال الجنرال أزيموف، هو شكل افتراضي لحياة تخلخلت عراها وتخلت عن بهجتها، وإلاّ فإنك لن تجد صورة ما للطبيعة وما حل بها. ولا صورة طفل ولا نهر ولا بحر، كأن تلك السوداوية القاتمة ابتلعت كل شيء وعادت الكائنات المتصارعة القهقرى إلى قبائل غارقة في التيه تبحث عن بقائها بأي ثمن.
المغامرة هنا تتعلق بأسلوب اللص والشرطي، ملاحقة في المخابئ والأقبية وقتل وقتال لا يكاد ينتهي حتى نصل إلى مبالغات ملفتة للنظر، كمثل إطلاق الرصاص على رأس الفتاة تواغ، وإذا بها تعود إلى الحياة من جديد، وكمثل الإجهاز على لوبو، ثم ظهوره في المشاهد الأخيرة ووجهه دامٍ، لكننا سنفاجأ بأن لوبو نفسه كان معارضا أمميا لتلك الحكومة الاستبدادية وجرائمها، لكنهم سجنوه وعذبوه فأعطاهم جميع المعلومات وصار يعمل مرتزقا في صفهم.
يبني المخرج ألساندرو كابوني في فيلمه “2047 مشاهد الموت” ذلك السرد المتصاعد في الصراع بين القوى المتعارضة، فيما هم مجرد أفراد قلائل، لكنهم يمثلون عقلا جماعيا، وهم حقا ليسوا إلاّ عينة مما تكامل في حقبة موغلة في الخراب، نقلت البشرية من حياتها الآمنة إلى ما لا نهاية له من الصراعات والفظائع التي حفل بها الفيلم، من خلال سرد فيلمي قدم باقة من ألمع نجوم السينما الهوليوودية.
العرب