يوسف بناش يؤكد أن تاريخ التهريج يتشابه كثيرًا مع تاريخ السياسة


محمد الحمامصي


يؤكد محللون سياسيون بدءًا من “هارفارد”، و”كمبريدج”، و”أكسفورد” وحتى جامعة “سلادكوفيتش” أن كتاب “أغبياء في السياسة.. مذكرات متدرب في عالم السياسة” للكاتب السلوفاكي يوسف بناش، والذي قام بترجمته د. خالد البلتاجي، وصدر أخيرا عن دار صفصافة، يُعد من روائع الأدب العالمي في مجال السياسة، ويندرج تحت الأدب الساخر.
بدأ يوسف بناش لافتا إلى أن أربعة أعوام من العمل في مجال السياسة كان خلالها عضوا في حزب الحركة الديمقراطية المسيحية، الذي كان جزءا من الائتلاف الحاكم، كانت كافية “كي أرى في السياسة ما لا يراه المواطن العادي، أو يراه ويتظاهر بأنه لا يراه، أو ربما لا يتظاهر، لأنه غير معني بالأمر”.
وبعد سرد مرحلة دخوله المجال السياسي أشار إلى أنه التقى بالعديد من السياسيين الناجحين على الصعيد المحلي والدولي “كانوا ينظرون إلى العالم والسياسة، وحتى إلى أنفسهم بنوع من الترفُّع. لذلك كانوا ناجحين. وهذا الكتاب يتوقع قارئًا يسمو فوق الأحداث. ويُخطئ من يعتقد أن الهدف من الكتاب هو إفساد علاقة القارئ بالسياسة. قد يجدها من لا يثق في السياسة فرصة للتشفي. أما من يؤمن بها فسوف يفهم ما أكتبه على أنه سعي إلى المعرفة. سعي لمعرفة أهمية السياسة، وسعي للعثور على السياسي المثالي. ذلك الرجل متعدد الثقافات، القادم من عصر النهضة، الرجل الذي لا تُبنى شخصيته على الكلمات والوعود، بل على الأعمال والفضائل. أنا لست ضد السياسة، بل أدعو إلى الاهتمام بها، أدعو هؤلاء الذين لديهم شعور بأن في إمكانهم المساهمة في قيادة البشرية إلى أقصى درجات الإنسانية والحب”.
ورأى يوسف بناش أن التاريخ ظلم الفيلسوف والسياسي وشاعر عصر النهضة نيكول مِكيافيللي، واعتبره شيطانًا عندما أطلق قاعدة “الغاية تبرر الوسيلة”. رغم أن “مكيافيللي” لم يقل غير الحقيقة، وهو أمر عديم الجدوى ومضحكِ في عالم السياسة. الواقع أني لا أطمح في محاكاة الوزير الحكيم في جمهورية فلورنسا، لكني أسعى إلى أن أُسمّي الأشياء بأسمائها الحقيقية.
قبل أن تقرروا أنتم أيضًا الدخول إلى عالم السياسة، أنصحكم بأن تراجعوا معي المواصفات التالية التي رُتّبت حسب استطلاع للرأي العام. السياسي المثالي هو: شريف، وعفيف، وغير متهور، ومثقف، ويجيد لغات أجنبية، ولديه حياة عائلية ناجحة، خبير في إدارة المؤسسات، وصادق، ويتمتع بالصحة، وخفيف الظل، ويجيد الاستماع إلى الآخرين، وتقديم العون لهم. لو وجدت في نفسكَ المواصفات السابقة فأنت رجل حالم، ولا تصلح للعمل السياسي على الإطلاق. وهذا أمر لا يجعلكَ تخجل من نفسكَ. فالحالمون كُثر، منهم “كانْت”، و”فيشت”، و”هِيجل”، و”غاندي”، و”كاركولكا”، و”دوبتشك”، والأميرة النائمة”.
وقال “من يظل في السياسة وفيّا للمبادئ هو كمَن يُعلم كلبه المشي على قدميه الخلفيتين. يتقدم خطوتين أو ثلاث خطوات، ثم يسقط. ورغم أنه أمر لا طائل منه، لكن يكفيكَ شرف المحاولة. فالطبيعة الوراثية للكلب تدفعه إلى أن يمشي على أربع. ولو أنكَ اتخذت قرارًا لا رجعه فيها بالعمل في مجال السياسة، فدعنا نعرف كيف انتهي بكَ المقام. أتمنى لكَ حظًا سعيدًا. فبرغم كل شيء، أنا واثق من أنه سيأتي يوم تمشي فيه الكلاب على قدميها الخلفيتين. لن يحدث هذا سريعًا، لكن التاريخ يقول إن الأفعال التي دفعت البشرية إلى قمة الإنسانية والرقيّ لم يأت بها إلا أصحاب الأجسام الجميلة. أتمنى لكَ التوفيق!”.
أوضح أسباب لجوئه للسخرية “عندما يتعرف الإنسان على السياسة عن قرب يجد أمامه خيارين متباينين. البكاء أو الضحك. لم أجد في نفسي رغبة في البكاء، لذلك رحت أنظر إلى السياسة وإلى أهلها من ذلك الجانب المُضحك. في حياة كل منا العديد من الأحداث الدرامية التي تُكدّر عليه معيشته. لذلك ما الفائدة في أن أزيد الطين بله وأنت تقرأ هذا الكتاب، بينما أنا شخصيّا استمتعت وأنا أكتبه؟.. وقد قررت أن أعالج ثنائية – السياسة والمأساة، والسياسة والتهريج، بالانحياز إلى النهج الساخر.
أرى الآن اللغويين المتشددين وهم يتأففون من استعمال كلمة “تهريج”. في الواقع أن تاريخ التهريج يتشابه كثيرًا مع تاريخ السياسة. فكلنا نحب المزاح، رغم أن الغالبية لا تعرف معنى التهريج الحقيقي. كذلك أيضًا نحب الحديث في السياسة، رغم أن معظمنا لا يعرف ما هي السياسة في الواقع.
التهريج يقوم به أناس لم ينهوا تعليمهم الأساسي بسبب رسوبهم في مادة النحو، التهريج يمارسه أيضًا جهابذة علماء اللغة. ورغم ذلك لم يظهر حتى الآن رجل شجاع، ليقوم بتصنيف كلمة تهريج على أنها جزء أساسي من اللغة السلوفاكية.
يراودني شعور بأن السبب في هذا يعود إلى رغبتهم في أن نشعر طوال الوقت بتأنيب الضمير. فمازالت تتردد في أذني كلمات من أيام الطفولة يقولها الكبار، بأن كلمة تهريج ليست فُصحى. “وما هي الكلمة الفصحى؟”، كنت أتساءل وأنا طفل، ومازلت أتساءل إلى اليوم. “مزحة، لهو، ضحكة، نكتة، مزاح، هزل…؟”. ربما نستخدم هذه المرادفات في إطار نشاط إنساني آخر. وليس في إطار السياسة. فالإنسان الذي يأخذ السياسة مأخذ الجد ليس إنسانًا مرحًا، لا يلقي طُرْفة أو نكتة، لكنه مُثير السخرية. مثله مثل السياسة نفسها. وعليكَ أن تبتعد عنها قدر المستطاع. فلو أنكَ انخرطت فيها لرأيتها جادة. الأمر شبيه بأن تنام على فراش الموت. فلن تملك نفسك من الضحك عندما تتمكن من مغادرته”.
وأضاف “عندما يقول رجل السياسة إن الاتحاد الأوربي يضم خمسة أو خمسين دولة عضوًا، وأن الأجور سوف تتضاعف، أو أنهم سيرسلون جنودهم للحرب طالما لن يحدث لهم مكروه، وعندما يوبخ السياسي في مارس/آذار عام 1990 على الملأ كل من أراد استقلال سلوفاكيا، ثم بعدها بعامين يمجدهم، لا يمكن أن نسمي هذا مزحة، أو نكتة أو هزل. إنه تهريج، وربما مهزلة أو مسخرة.. السياسة رسميًا تعني إدارة الشأن العام على مختلف المستويات من أجل صالح المواطن. هكذا عرفها خبير الشئون السياسية “ماكس ويبر”.
ويؤكد البعض أن “ويبر” كان يعني بعبارة “على مختلف المستويات” على مستوى الدولة، والإقليم والمدينة. وبعد دراسة متأنية لمقولة “ويبر” أظن أنه كان يعني على مختلف مستويات السياسيين. أنا مقتنع بهذا التفسير لأن المستوى الأخلاقي والتعليمي لرجل السياسة في أمور إدارة الشأن العام أهم بكثير من المستوى الذي يدار به الشأن العام نفسه. ولكي تكون ناجحًا في عالم السياسة يجب أن تكون حاضر الذهن على نحو يسمح لكَ بفهمها، وأن تكون غبيًا على نحو يجعلك لا تعتقد بأنها ذات أهمية. وقد ظهر على مر التاريخ أناس واهمون، حاولوا أن يضعوا قواعد للسياسة. لكن القاعدة الوحيدة في السياسة هي أنها بلا قواعد. ولو اعتقد أحدهم بأن هناك قواعد في السياسة فهي من أجل أن يكون هناك ما نخالفه. إنه أمر شبيه بكرة الماء. الفارق بينهما هو أن كرة الماء بها رفسات، ولدغات، وخربشة، ومحاولات إغراق ربما لا تراها لأنها تحدث تحت سطح الماء. وفي السياسة تحدث محاولات الإغراق حتى فوق السطح، ويتلهى فيها المشاهدون من خروقات اللاعبين للقانون. وأحيانًا يسعد بها اللاعبون أنفسهم”.
وشبه يوسف بناش السياسة بالجنس تشبه السياسة الجنس إلى حد بعيد “يمكننا أن نفعل أشياء كثيرة مفيدة أثناء التفكير في الجنس أو في السياسة. فأنا أحب التفكير في السياسة وأنا أنزح البالوعة بطلمبة نزح الرواسب ماركة ALKO IPV 1100 INOX‎. توصلت إلى أن الثفل الثقيل في عصير العنب يترسب في القاع، على عكس رواسب البالوعات. تصطدم بالقطع الكبيرة كلما صعدت إلى أعلى حيث تتجمع، وتنصهر مع بعضها فوق السطح. ولا يضرها أنها قادمة من مؤخرات متخلفة. وعندما يتزايد عددها في البالوعة، وتوشك على أن تتسرب إلى الخارج تُسْقِط طلمبة نزح الرواسب في قاع البالوعة كي تنظفها.
غير أن قانون البالوعات يقول إنكَ مهما نظفتها فلن تسحب منها سوى الرواسب المتناثرة. أما القطع الكبيرة فتشكل طبقة متجانسة وقوية فوق السطح، وكلما انخفض مستوى السطح تنخفض معه. ويزيد سقوطها نحو القاع من التحامها وتضامنها مع بعضها. وتشعر بحاجة كل منها إلى الأخرى كلما استقرت في القاع. يمكنكَ أن تطلق عليها وابل من ضغط الماء العالي كيفما شئت، لكنكَ لن تفتت الطبقة السميكة التي تكونت.
يقول قانون البالوعات الأول: “أكبر القطع تطفو فوق السطح”، ويقول قانون البالوعات الثاني: “كلما بقيت القذارة في البالوعة فترة أطول ازدادت صلابة وانسجامًا”. وكون القاذورات الكبيرة تطفو فوق السطح لا يمنع من أن هناك قاذورات صغيرة غيرها في المستويات الأدنى. وقد لاحظ خبراء المجاري أن وجود مياه نظيفة في البالوعات لا ينفي أنها ستظل بالوعة مجاري. والعكس صحيح، فلو أنكَ صببت قذارة في المياه النظيفة فسوف تتحول إلى بالوعة قاذورات.
قانون البالوعات الثالث يقول: “بالوعة المجاري ستظل بالوعة مجاري”. ونضيف إليها الآن القانون الرابع: “بالوعة المجاري لا تصدر إلا رائحة نتنة”. ويمكن التعايش معه لو تظاهرت الأغلبية بأنها غير متضررة من الأمر. وفي نهاية حديث المجاري أقول إن للعطور رائحة طيبة، لكن هذا لا يعني أنها جيدة للتسميد.
أتمنى ألا تُثني الكلمات السابقة كل من يشق طريقه في عالم السياسة عن مواصلة سعيه. فعامل المنجم مهدد بالإصابة بالربو، وصائد الأسماك يتوعده الروماتيزم، والطبيب النفسي عُرْضة للإصابة بخلل عقلي، والطبيب أو الممرضة قد يصاب بالسرطان جراء تعرضه للأشعة، وكذلك يتعرض الدبلوماسي الذي يعمل في إفريقيا الاستوائية للإصابة بالملاريا، والعامل في مصنع للإسمنت عُرضة للإصابة بالسُّل، ولاعب كرة التنس بالإصابة في وتر المرفق، وعضو في فريق الموسيقى الصاخبة بالصمم. كذلك رجل السياسي يخاطر بانحناءة دائمة في ظهره. لكن هذا المرض قابل للعلاج”.
وأضاف “إن دورة السياسة، مثلها مثل طلمبة تنظيف المجاري، قائمة على تنظيف اسطبل الملك “أوجياس” للخيل. فلم يتمكن أحدهم من تنظيف اسطبل “أوجياس” القذر. ولو لم يترك السياسيون السابقون لخلفائهم اسطبلًا ما، فمن المؤكد أن خلفاءهم سيصنعونه. وإن لم يفعلوا فسيصنعونه هم على عَجَل، ثم يدعون الصحفيين كي يصوروه، ويسجلوه، ويعرضوه على الشعب.
تنقسم اسطبلات “أوجياس” إلى اسطبلات محافظة، وأخرى اشتراكية. الاسطبلات الليبرالية عددها أقل بكثير من غيرها لأن المحافظين والاشتراكيين حريصون كل الحرص على يصنعوا هم بأنفسهم اسطبلات “أوجياس” عند فوزهم في الانتخابات. وقد ظهرت اسطبلات “أوجياس” مع ظهور الديموقراطية الجَمْعِيّة. ففي النظم الشمولية لا يَنتقد الخليفة من سبقه لأن كليهما صورة للآخر، لأن الحكومة التي يشكلها حزب واحد تُستبدل بحكومة من نفس الحزب. عيب هذه الحكومات أن المواطنين لا يستطيعوا أن يتهموا رؤساء الحكومات السابقين بأي نوع من التقصير. فرؤساء الحكومات، ورؤساء الدول، أو حتى السكرتير العام في النظم الشمولية غالبًا ما يغادرون مناصبهم مرفوعي الهامة. وليس من اللياقة في مثل هذه الظروف أن يَحْمرّ وجه أحدهم خجلًا. لكن بعد الثورة المخملية يمكننا أن نطالب السياسيين السابقين بأن يخجلوا مما فعلوه”.
ميدل ايست أونلاين

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *