*فاضل السلطاني
ماذا يفعل اللغويون العرب، الحراس المفترضون للغة والتراث؟ لا أحد يعرف. إننا نسمع عن اجتماعاتهم القطرية والقومية، ونقرأ بياناتهم الختامية التي تحذر منذ أكثر من نصف قرن من خطورة العامية على الفصحى، معيدة إنتاج معارك طه حسين والعقاد حول هذه القضية، العربية بامتياز أيضا، وكأنها قضية العرب الأولى التي لا تعلو قضية عليها.
لا اعتراض بالطبع على غيرة «مجامع الخالدين» على اللغة، ولكن المطلوب أن تمتد هذه الغيرة لتشمل المناحي اللغوية والثقافية الأخرى التي لا تقل خطورة، إن لم تكن أخطر من قضية العامية والفصحى. ونعتقد أنها قادرة، إذا غيرت طريقة عملها وتنظيمها وأطرها البشرية، وفتحت عيونها قليلا على ما يجري في الواقع الثقافي العربي، أن تصبح مرجعية ثقافية ولغوية نستند إليها في تخبطنا وحيرتنا، وخصوصا فيما يتعلق بالمصطلحات التي نستوردها يوميًا من دون أن نعرف معانيها ودلالاتها الدقيقة. ونعتقد أن هذه المهمة هي الوظيفة المركزية الأولى لأي مجمع لغوي حقيقي.
فالفهم الخاطئ لمصطلح ما لا بد أن يقود إلى بناء فكري وجمالي هش سرعان ما ينهار، لكن بعد أن يكون قد ترك آثاره العميقة في النفس والذهن، وأنتج مقولات وتصورات فكرية وثقافية زائفة لأنها تستند إلى مصطلحات زائفة هي أيضًا أو قامت على فهم خاطئ.
وانظروا، مثلا، ماذا جرى لمصطلح الحداثة العريق، وما أنتجه من بلاء في الثقافة العربية، من دون أن تكلف المجامع اللغوية نفسها يومًا التوقف عند هذه الظاهرة الخطيرة، وتحاول أن تقدم تعريفًا دقيقًا لهذا المصطلح وتجلياته في الفكر والثقافة الإنسانيين ارتباطًا بالظواهر الاجتماعية والثقافية في مجتمع ما، مما يمكن أن يشكل مرجعية نستند إليها في كتاباتنا وممارساتنا النقدية.
من المضحك – المبكي أننا ما زلنا، وقد بلغ عمر هذا المصطلح نحو القرنين، منذ أن استخدمه الشاعر الفرنسي شارل بودلير في القرن التاسع عشر، لا نعرف ما هي الحداثة حقا. وما زلنا نرتكب باسمها خطايا كثيرة قاتلة.
ولعل أكبر خطيئة ارتكبناها بحق هذا المصطلح، وما زلنا نرتكبها، هي الخلط بينه وبين الجديد New والمعاصر Contemporary، وترتبت على هذا الخلط نتائج اجتماعية وثقافية خطيرة في منطقتنا العربية، بحيث أصبحت هذه المصطلحات تدل على بعضها البعض مع أنه لا جامع بينها. وأكثر من هذا، أصبح مفهوم الحداثة عندنا مرتبطًا في الذهن بالحداثة الشعرية، وهي ليست حداثة ولا يحزنون، فالحداثة هي إزاحة اجتماعية كبرى، تمتاز، كما يقول مالكم برادبري وجيمس ماكفارلن في كتابهما «ما الحداثة»، بالتحولات العميقة الواسعة التي تخلفها وراءها، وغالبا ما يستمر تأثيرها مدة طويلة تقاس بالقرون، فنستطيع أن نقول مثلا عصر النهضة أو عصر التنوير. ومن هنا، فهما يميزان بين الحداثة Modernity والمعاصرة Modernism وبين الجديد New مقابل القديم Old.
ولكن كل ما نسمعه الآن هو الحديث عن «حداثة شعرية»، وكأن الحداثة هذه الحادثة التاريخية والاجتماعية والجمالية الضخمة، لا تعني سوى طريقة توزيع الأبيات الشعرية! ولم يكن ذلك ليحصل، لو توفرت هناك مرجعية نعود إليها، ونحترمها، ونخشاها أيضا، ومن يستطيع أن يشكل هذه المرجعية، في وقتنا المنفلت الحالي، غير المؤسسات العلمية والثقافية، وفي مقدمتها المجامع اللغوية؟
نعتقد، ودعونا نتمسك بالنيات الطيبة، أنها قادرة على ذلك، بشرط أن تغير نفسها. ونرجو أن لا تشغلها، مرة أخرى، قصة البيضة والدجاجة.
_____
*الشرق الأوسط