دُمْبُكْدُمْبُكْدُمْبُكْدُمْبُكدَمْ.. دم.. دم


*عبدالله حبيب


بعد مضي عدة عقود من الزمن، وحين وصلت الأشياء كلّها إلى حافة الانهيار الكامل والنهائي، قَبلَ، بكثير من المضض والاعتراف الداخلي ببعض العجز، الأمر الصارم الصادر إليه في شكل نصيحة لحوح صادرة من مستشاريه المحليين والأجانب، والمقربين، بضرورة الظهور على شاشة التلفاز الوطني لإلقاء كلمة إلى الشعب.
قالوا له إن عليه أن يتحدث بلغة بسيطة يفهمها المواطنون العاديون خاصة الصيادين، والفلاحين، والعمال، والباحثين عن عمل، وموظفي البدّالات، والنادلين ذكوراً وإناثاً في المطاعم والمقاهي والحانات، وسائقي الحافلات والشاحنات الخفيفة والثقيلة، وحتى القوادين والعاهرات، وكل أولئك الذين لم يتوافروا على قسط كبير من التعليم، بل وحتى المقاتلين المناوئين كاملي أو جزئيي الأميَّة الذين يحملون السلاح ضده، وأن يستخدم في كلمته مفردات دارجة في مختلف اللهجات واللكنات المحلية حتى يبدو كعادته دوماً الرمز الأكبر للوحدة الوطنية وتجسيدها الشخصي المباشر حتى في كلامه، ولون سحنته ومحيَّاه، والتفاتات يديه.
وقالوا له أيضاً إنه سيحفظ ما عليه قوله عن ظهر قلب، ولكن، مع ذلك، ينبغي أن يبدو عفويَّاً وتلقائياً في الحديث وهو يردد كل ذلك كالببغاء الذكيَّة، لأن الكلمة المُزْمَعَة سَتُوَجَّهُ عبر البث المباشر في التلفاز الوطني.
وقالوا له إنه على الرغم من ضرورة الانبساط والأريحيَّة والتظاهر بالحديث على السجيَّة فإن عليه أيضاً أن يبدو حازماً وصارماً خاصة لدى اندلاقه القمطريري غضباً، وتهديداً، ووعيداً.
وقالوا له أيضاً إن الكلمة ستتخللها بعض الألفاظ البذيئة والسوقيَّة في الجُمَلِ الغاضبة، والتي لم يتعودها المواطنون منه في كلماته الرزينة المكتوبة بلغة أدبية قديمة لا ينقصها بعض التحذلق والتَّقعرّ، وستشوبها أخطاء لغوية قليلة بصورة عامدة إمعاناً في التظاهر بارتجاليتها وعفويتها، وكأنه يُدلي بها في أي بيت من بيوت البلاد.
قالوا له، إذاً: «ستتحدث للمواطنين كما لو انك أحد مواطني هذه البلاد». وقالوا له، أيضاً، في رد على اقتراح جَزِعٍ منه انه لو سجَّلوا الكلمة أولاً، في القصر الرئاسي مثلاً، ثم تظاهر الأمر انها بثٌّ مباشر، لَتَسَرَّبَ الخبر من التلفزيون الوطني، «خاصة أن فيه عناصر متعاطفة مع المشاغبين، والمتمردين، ومثيري القلاقل والفتن» كما أسَّر إليه أحد مستشاريه المقربين، وان هذا ليس في صالحه ما دامت الأمور قد آلت إلى ما آلت إليه في طول البلاد وعرضها. وقالوا له إن البلاد ليست بحاجة لمزيد من التسريبات، والشائعات، والأقاويل لأن الوضع سيئ جداً بالفعل، وأن الوقت حرج للغاية، وأن عليه أن يفهم ذلك، وانهم إنما يفعلون ذلك لصالحه أولاً وأخيراً فقد ضاقوا ذرعاً به وبالبلاد معاً.
وقالوا له غير ذلك مما لا يعلم أحد.
وبعد أيام تسمَّرت البلاد أمام شاشات التلفاز في الموعد المحدَّد قبل ذلك في عصر ذلك اليوم الذي خرج فيه الناس من أعمالهم ومشاغلهم على عجل. حتى العاطلون عن العمل تسمروا أمام الشاشات في أقرب مكان يسمح لهم بالدخول إليه. وفي عصر ذلك اليوم امتلأت السيارات الحديثة التي تتوفر على أجهزة تلفزيونية مُرَكَّبة فيها، والمقاهي، والمطاعم، والحانات، والثكنات، وغرف الجلوس في الشقق والبيوت، والغرف التي لا تصلح للجلوس ولا لغير ذلك.
وفي عصر ذلك اليوم ظهر على الشاشة وهو بكامل زيِّه العسكري الميداني مطرَّزاً بأوسمته ونياشينه وميداليَّاته الكثيرة، لكن من دون مرافقين مدنيين أو عسكريين للمرة الأولى في تاريخ التلفاز الوطني، وفي تاريخه، وفي تاريخ بلاده.
وفي عصر ذلك اليوم قال إن هناك مشاكل كثيرة تحدث في هذا العالم الصعب الذي لا يمكن أن يتحكم فيه أحد، بمن في ذلك هو شخصياً على الرغم من كل قوته وجبروته، وأننا نعيش على الأرض وليس في السماء، وأنه يعلم جيداً أن البلاد لا تمر الآن بأفضل حالاتها. وقال مبتسماً إن الصبر ضروري وواجب، وأن على الذين يرجون مزيداً من النعمة للخروج من الأزمة أن يتذكروا أن الزيادة في النعمة مقرونة بالزيادة في الشكر.
وفي عصر ذلك اليوم قال أيضاً إن مصلحة الوطن تقتضي أن كافة التدابير والإجراءات الأمنية والقانونية الاستثنائية ستستمر «للأسف الشديد»، وأن تنفيذ أحكام الإعدام لن يتوقف لأنه لا يستطيع أبداً أن يتساهل أبداً مع من يخونون الوطن والدولة، ويخونونه، لذلك، هو شخصياً.
وفي بيت صغير في مدينة صغيرة على أطراف البلاد سأل صبيٌّ صغير أمَّه الجالسة بقربه أمام التلفاز في عصر ذلك اليوم عن معنى كلمة «إعدام»، فأزاحت نحوه ذراعها كمن يهدده بإغلاق فمه بيدها كي لا يشوِّش عليها مشاهدة بقية الكلمة والاستماع إليها، وقالت له في اقتضابٍ ضَجِرٍ: «إعدام هو مثل ما صار لأبيك». وفي عصر ذلك اليوم قال إن قواته الجويَّة ستتكفل قريباً، وبصورة نهائية وماحقة، بشأن المقاتلين المتحصنين في الجبال – بل قال، للأمانة والدِّقَّة: «الذين يظنُّون انهم متحصنين بالجبال!. هاهاهاهاهاها!، هوهوهوهوهو!، كاع كاع كاع كاع كاع كاع كاع!»، وأن قواته البريَّة وقواته الخاصة تخوض معارك منتصرة على المقاتلين المرتدين ثياباً مدنيَّة والذين ينشطون على حواف المدن وفي أحيائها الفقيرة. وأضاف: «أما قواتي البحرية فإنها جاهزة للرد على كل السَّمَّاكين الحقراء التافهين أولاد «الق[…]» الذين يفكرون في الاعتراض على التجريف السمكي الجائر هاهاهاهاهاها!. كُ[…] أمهم وأمكم!».
وفي عصر ذلك اليوم، في بيت صغير في قرية ساحلية صغيرة بعيدة عن العاصمة، سألت بنت صغيرة أباها عن معنى «التجريف الجائر»، فأزاح الصيَّاد نحوها ذراعه كمن يهدده بإغلاق فمها بيده كي لا تشوِّش عليه مشاهدة بقية الكلمة والاستماع إليها، وقال لها: «أظن أن ذلك معناه حين يهرب السمك من البحر»، فضحكت البنت الصغيرة قائلة إن مُعَلِّمتها قالت لها إن السمك لا يمكن أن يعيش خارج البحر، فَعَبَسَ في وجهها والدها قبل أن يعود إلى سماع بقية كلمة الزعيم ومشاهدتها.
وفي عصر ذلك اليوم قال إن على الناس الثقة المطلقة والكاملة بأن النصر سيكون حليفه مثلما كان حليف أجداده. وقال بانفعال واضح إن قواته ستسحق كل شراذم المشاغبين، والمتمردين، ومثيري القلاقل والفتن. وأضاف في غمرة حماسه انه زعيم أبدي شجاع حتى الموت، وانه: «والله، والله، لو حاصر الكلاب وأولاد القَ[…] قصري فسأحاربهم حتى آخر طلقة. نَحْنُ أَعِدُهُم بذلك». ثم، كمن استدرك شيئاً، أردف بطريقةٍ تأمليِّة لم يسعفها كثيراً وجهه المُحْمَرّ: «أقصد، لو بقيت لدي رصاصة واحدة فقط.. رصاصة واحدة فقط.. واحدة فقط، فهذا ما سأفعله بها…».
وفي عصر ذلك اليوم أصيب صبي صغير في مدينة صغيرة، وبنت صغيرة في قرية ساحلية بعيدة عن العاصمة، بالرعب والفزع وهما يريان الزعيم يأخذ مسدسه ويدخل ماسورته في فمه. وفي عصر ذلك اليوم، وعلى البث المباشر في التلفزيون الوطني، انطلقت الطلقة في كل بيت من بيوت البلاد: «طاااااااخ». وفي عصر ذلك اليوم انفجر رأس الزعيم وتدفق الدم من شاشات تلفاز المواطنين.
بعد سنوات من ذلك، قيل إن الزعيم، في غمرة يأسه وغضبه وارتباكه وانفعاله، نسي إن مسدسه «مسحوب الأقسام» و«وضع الأمان» فيه موضوع على «وضعية الإغلاق» في كل الأوقات تقريباً لأسباب أمنية واضحة، ونسي أيضاً إن لا مجال للتظاهر والتمثيل في مثل هذه المسائل. وقيل أيضاً أن الأمر العجيب الغريب رُتِّبَ له بليل المستشارين الأجانب والمقرَّبين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بطريقة مشرِّفة للجميع على الهواء مباشرة. وقيل أيضاً أن أحد العاملين في جهاز التلفزيون الوطني تمكن بطريقةٍ ما من استبدال مسدس الزعيم الفارغ من الرصاص بمسدس آخر (ممتلئ المخزن، و«مسحوب الأقسام» و«وضع الأمان» فيه موضوع على «وضعية الإغلاق»). وقيل ايضاً غير ذلك.
ولكن في عصر ذلك اليوم، حين انطلقت من بيوت كل المواطنين تلك الطلقة»: طاااااااخ»، في فم الزعيم مفجرة رأسه أمام الجميع، خرجت البلاد إلى الشوارع والأزقة والساحات وهي ترقص على إيقاع الطبول: دُمْبُكْدُمْبُكْدُمْبُكْدُمْبُكدَمْ.. دُمْبُكْدُمْبُكْدُمْبُكْدُمْبُكْدَمْ.. دُمْبُكْدُمْبُكْدُمْبُكْدُمْبُكْدَمْ.. دم.. دم.
لوس أنجلوس/ كاليفورنيا، الثلاثاء، 19 ديسمبر 2006
______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *