تناويح مبهجة


*تغريد شاور


خاص ( ثقافات )
أبحث عن قرية مليئة بالعجائز الموشومات على ذقونهن، عجائز يجمِّلن أنوفهن بـ ” الشناف ” ويدخِّن الغليون الطويل.
أو عجائز يلبسن فساتين حريرية كمها قصير، وتغطي أعلى الركبة ، ويعقدن مناديلهن إلى الخلف، مظهرات غررهن، ويضعن أحزمة رفيعة على بطونهن المسمولة !
أو مجموعة من العجائز، فُرن أول مرة عند الغدير، ثم أكلت الصحراء نصف بهجتهن، ووهبتهن مكانها كل الحكمة.
لا أبحث عن عجائز يمتهنّ الولولة …
بل أبحث عن كل تلك العجائز، ليعلمنني الحزن والتتاويح الأصيلة ! 
ليس ضربًا من الجنون كل ذلك، ولا طور إكتئاب حاد أدخله مع بداية الخريف. 
بل كل ذلك ، لأتداخل مع الحياة الأولى ، لأدخل الجانب المهمش إراديًا في دواخلنا والجانب الذي نخفيه ، البعبع الذي نخافه.
لأتحدث برئة ممتلئة بالفرح والحكمة عن كل هذا الحزن البكر، لأتشبع من أدبياته ، وجمالياته وقوانينه ، لأراهن على كَم السعادة المتدفق جراء اكتساب الذات، وكشف الزيف مبكرًا ، وأخيرا ، لأشرب الحياة ماءً زلالاً.
هل فكرنا يوما ، بانحياز تام للحزن وتخلصنا من مشاعرنا السلبية نحوه !
وأمعنّا التفكير بخلقه الأول، هل هو طفرة أو جين متوارث ، أو شعور مكتسب ، أو حاجة بشرية ماسة ؟.
لكل طريقته في الوصول إلى المعاني السابقة ، أما أنا، فطريقتي كانت في التناويح ..
فمثلا لو سمعت عجوزًا تدفعها دفقات قلبها لقول :
” يا دود ، حلفتك بداهود … لا توكل أبو عيون سود ..”
أو 
“عـ ضناك يما غيب وطل ع ضناك …. جهال يما ما يربوا بلاك ..”
“… وآني إن دبوني بقاع البير تنكيس…. لصبر على حظي وقلة نصيبي ..”
“يا حادي العيس جَمّعْنِيْ وَبُويْ وامّي … وَاشلح ثياب السفر واشكيلهمْ هَمّي”
“و بيني و بينك سلسله و وادي ….و أبعدت غادي ليش ياخي أبعدت غادي”
“الهوى شرقي وغربي .. لا تفتحوا علي جروح قلبي … كلمه من الله يا حراير ..المكتوب على الجبين صاير”
تلك الكلمات التي ما أن تسمعها من صوت مليء بالشجن ، وعارف بالحياة وتلوَّع بالحرمان حتى ينغسل القلب ، وترد الإنسان إلى الفطرة الأولى ،وتعيد له ترتيب أولوياته من جديد .
ترده كائنًا اجتماعيًا أليفًا ، طوَّعه الحزن، وجلى روحه، و نسف كل شروره، وأهان غطرسته التي تملكته ، و قوَّض مدنيته التائهة .
هذا الانكشاف الفطري ، لن يحققه الفرح الأناني المتفِّرد ، المتعصِّب لأناه ، المغرور ببهرجة الأصوات المتعالية .
لن يحقق بهجة جماعية أصيلة ، ولن يمتلك القوة ليلم الشمل مع الأموات قبل الأحياء والمفقودين أو الغائبين ، والمتخاصمين ، والأولاد العاقين، ولا البنات المحرومات من الوقوف على أبواب الحياة .
الفرح الذي يتعامل مع الماضي كمفقود لا معنى له، لن يترك لنا ميراثا ولا تذكارات ولا صورا لبلاد أو عباد نحبهم وغابوا أو غيبوا .
وينظر إلى الجماعة ،على أنها ردة فعل آنية ثم تنقضي ، لن يهمه المكان فهو، عبثي ، ولا الزمان فهو وقتي! 
ثمة فجوة حاصلة بين الفرح السريع ،والحزن الأصيل ، الذي يجيء بالتناويح البهيجة ، هي تماما كالفجوة المركبة بين الأصالة والمعاصرة ،هي فجوة العرفان!
_______
الشناف : القرط الذي يوضع في الأنف .
* كاتبة من الأردن 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *