عبد الرحيم التوراني*
خاص ( ثقافات )
غطى حدث توشيح الملك محمد السادس للمقاوم والمعارض الكبير محمد بنسعيد آيت يدر، على باقي المكرمين الآخرين، ممن أنعم عليهم جلالته بأوسمة ملكية بمناسبة عيد العرش لهذه السنة. ومن ضمن هؤلاء المناضل اليساري والمعتقل السياسي السابق أحمد حرزني، والأديبة الكبيرة خناثة بنونة، والكاتب والصحفي إدريس الخوري.
لست هنا بصدد الخوض مع الخائضين في لجة الجدل واللغط الذي أثاره توشيح المعارض التاريخي محمد بنسعيد، وردود الفعل والتداعيات التي خلفها، لكني أود الكلام فقط عن توشيح الكاتب والصحفي إدريس الخوري …
المقاوم إدريس الخوري
بداية أعتبرإدريس الخوري مقاوما من طينة مختلفة من المقاومين الكبار.
لما حصل المغرب على استقلاله كان عمر إدريس الخوري لا يتجاوز الخمسة عشر سنة، ومثله مثل أقرانه حينها، كان إدريس غير بعيد عن لظى المرحلة، وصخب هتافات وشعارات المطالبة بالاستقلال وعودة الملك الشرعي المنفي محمد الخامس.
وكان الزعيم الوطني الكبير علال الفاسي قد أخبرنا أنه بعد بلوغه سن الخامسة عشر هجر اللهو واللعب، ليتفرغ للنضال من أجل أمته “المنكودة”، لما أنشد قصيدته المشهورة التي يقول مطلعها:
أبعدَ مرور الخمس عشرةَ ألعبُ… وألهو بلذات الحياة وأطربُ
لكني أعتقد مع آخرين أن بَّادْريس، (وهذا اسم التحبب الذي يطلقه المقربون وغير المقربين على إدريس الخوري) لم يعرف اللهو واللعب، لا قبل ولا بعد تلك السن الصغيرة. ليس عن زهد وتعفف، ولكن لأنه ببساطة لم تتوفر له أسباب اللهو والطرب “بلذات الحياة”، فنشأ وظل على امتداد عمر طويل يقاوم من أجل الوجود والبقاء فقط، مكافحا من أجل “أن يكون”. هو الذي وعى الدنيا يتيم الأبوين، وعانى من إهمال إخوته الكبار الذين كفلوه، كما ذاق من بغض وكيد زوجاتهم.
طفولة بلا طفولة
لا زلت أذكر من أطلق أول مرة هذه الطرفة التي تناسلت وصار لها آباء عديدون، إنه الكاتب الراحل محمد زفزاف، وكان في خصام عابر مع صديقه الخوري، حين روى لنا مرة ضاحكا أنه يشك في أن يكون هذا المخلوق العجيب (بَّادْريس) قد مر بمرحلة الطفولة والمراهقة مثل “أيها الناس”، فصورة الطفل إدريس الخوري، مهما بلغ الاجتهاد، صعب على المرء تخيلها، لقد ولد بَّادْريس من ساعته، يضيف زفزاف، رجلا مديد القامة، ضخم الجثة، مكتملا بشارب وبلحية، كما عرفناه وعرفه الجميع. وهي الطرفة التي سيقابلها إدريس الخوري بالضحك وبالقهقهة لما ستنقل إليه.
لم يكن إدريس المراهق من فاس العاصمة العلمية، ولا كان والده من فقهائها، كما الحال مع زعيمنا علال الفاسي، بل كان من أبناء الحي الشعبي درب غلف في الدار البيضاء، وقد شاهد أولاد الدرب الثائرين على الاستعمار الفرنسي ينخرطون تباعا في خلايا المقاومة السرية وفي صفوف الفداء. كما سمع عن الخونة و”البيّاعة” الذين صفّتهم المقاومة. ولا زالت ذاكرة إدريس تحفظ بإعجاب وفخر الأسماء والوقائع والأحداث، التي كان شاهدا عليها من “شهداء العصر”. وأبرز تلك الأسماء المقاوم الجذري محمد بنحمو، سليل درب غلف الذي سيكون أول محكوم عليه بالإعدام مع مجموعة من رفاقه الثوريين في مستهل الستينيات في ظل عهد الحرية والاستقلال.
لقد كان والد إدريس يسمى بنفس اسم مؤسس حزب الاستقلال، أي “علال”، وهو الاسم الذي وقع به الخوري كتاباته الأولى في “العلم”، وفي مجلة اتحاد كتاب المغرب “آفاق”: (إدريس علال الداودي)، نسبة إلى قبيلة أولاد السي بنداود بنواحي سطات، وتحديدا منطقة “كيسر” (الكاف جيم مصرية) والتي تغنت بها مغنية شعبية ّشيخة” حين قالت:
(إلى لحقت “كيسر” دور على الليسر)
أي: إذا وصلت إلى “كيسر” انعطف يسارا.
لكن بَّادْريس لم يسمع عيطة الشيخة إلا بعد عمر، حين سيجد نفسه بين صفوف المعارضين الاتحاديين، ويصبح منتسبا لصحافتهم اليسارية: (المحرر، الاتحاد الاشتراكي، البلاغ المغربي…)
لبناني من درب غلف
قاوم بَّادْريس من أجل استكمال تعليمه، ولم تقدر الأسرة على توفير الأقساط الشهرية لمساعدته على متابعة دراسته بمعهد “الرشاد العلمي” بلارميطاج، فتوقف عند حدود المستوى الابتدائي. كما يذكر لنا صديقه في الدراسة الفنان التشكيلي عبد الله الحريري.
وإذ أخفق التلميذ إدريس، فإنه لم يتراجع إلى الخلف، ولم يهن. فبَّادْريس قرأ عن سير عظماء من التاريخ لم يكملوا تعليمهم، ومنهم الأديب الموسوعي الكبير عباس محمود العقاد الذي لا يتوفر سجله التعليمي إلا على الشهادة الابتدائية.
سيواظب إدريس على قراءة والتهام كل ما يقع تحت يديه من كتب ومجلات وصحف، كفأر صغير. وعندما جرب كتابة الخواطر والشعر استطاع أن ينشر له ألبير أديب في المجلة الرائدة “الأديب” بعض القصائد النثرية. وبعض ألسنة السوء قالت إن ألبير أديب ظن إدريس الخوري مهاجرا من لبنان يقيم في المغرب.
متى قرر إدريس الخوري أن يحترف الأدب ويصبح كاتبا؟
ربما بعد أن أنجز تحقيقات اجتماعية نشرتها له مجلة “الأطلس المصورة”، وسينظر باتجاه الصحافة. ولم تكن الخيارات متوفرة أمامه حين عرض نفسه على يومية “العلم”، لسان حال حزب الاستقلال، فألحقوه بقسم التصحيح والمراجعة، ثم بدأ بين الحين والآخر مساهما في “مذكرات العلم” التي كان تحتضن كتابات أسماء الكتاب المغاربة الكبار في تلك الفترة.
ومثله مثل صديقه محمد زفزاف جرب إدريس أكثر من اسم قبل أن يستقر على الاسم الذي اشتهر وعرف به: “إدريس الخوري”، وقد أتى به من قراءته لكتابات جبران خليل جبران، كما صرح ذات مرة للصحفي اللبناني ميشيل طراد من مجلة “الصياد” البيروتية، الذي حاوره ذات يوم خريفي على رصيف مقهى فندق “باليما” المواجه لمقر البرلمان.
غرابة الاسم على المشهد الأدبي المغربي ستقابل ببعض الاستهجان، أو لنقل تخفيفا، بعدم الاستحسان من قبل أديب مغربي كبير من أسرة “العلم”، هو الكاتب عبد المجيد بن جلون، كما لم يعجب هذا اللقب مدير “العلم” نفسه الأديب الروائي والسياسي عبد الكريم غلاب، لكن عبد الجبار السحيمي المسؤول في الجريدة، سيكون هو من سيشجع بَّادْريس على التمسك بالاسم اللبناني الذي اختاره لتوقيع كتاباته.
مؤدلج النميمة
لمع اسم إدريس الخوري سريعا، وفرض نفسه على المشهد الأدبي في القصة القصيرة والمقالة الأدبية الصحفية في زمن وجيز، وكذا على مجالس المبدعين، في العاصمة الرباط والدار البيضاء، من تشكيليين وأدباء ومسرحيين وغيرهم. الكل يسعى لصداقة بَّادْريس ومجالسته، وأصبحت أجمل الجلسات هي التي لا تخلو من حضور بَّادْريس و”تسلطنه”، وباتت تلك المجالس لا تحلو إلا بموسيقى قهقهات بَّادْريس المجلجلة، وتعابيره وألفاظه الخاصة به والمسجلة باسمه، منها:
(اضرب الكاس/ واسمع المواسق ديال النفس/ واعرف من جاك/ وأنت سيييير…/ الْعُرْ/ آلسّط.. آمّط../ التكربيع..الخ..).
مجالس صاخبة كان بَّادْريس لا يتردد فيها عن ممارسة “دكتاتوريته البروليتارية” المشاكسة على كل من “خرج فيه لبلان”، وأحيانا قد يكون واحدا متغيبا من الشلة، ما يعني الاغتياب والنميمة “المشروعة”، النميمة التي حاول إدريس الخوري مرة التنظير لها كجنس أدبي، عندما كتب: “الكتابة نميمة مقروءة”، وسيضيف صديقه محمد زفزاف مازحا: “النميمة تطيل العمر”.
إدريس الخوري عضو “ناس الغيوان”
لم يكن الوسام الملكي أول التفاتة سامية يحظى بها بَّادْريس ، فقد سبق له أن استفاد من الرعاية الملكية حينما أصيب بكسر في وركه، إثر انزلاقه في الحمام.
كما استفاد إدريس الخوري من منحة شهرية مجزية، مثله في ذلك مثل أعضاء مجموعة “ناس الغيوان”، والفنانة سكينة الصفدي من مجموعة “جيل جيلالة”.
لكن كيف تم إقحام اسم بَّادْريس مع أناس يحترفون الفن والغناء الشعبي وليس الأدب والكتابة؟
ربما هي الصدفة فقط.
لكن الذي أعرفه، ومن إدريس نفسه، أنه كان من هواة الغناء والموسيقى في شبابه الأول، وقد تكلم مرة في حوار مطول مع يومية مغربية، عن والده العازف المتجول “التروبادور”.
كان بَّادْريس يحكي لنا في الجلسات الخاصة بعض النتف من طفولته البئيسة، وقد بدأ تدوينها في سيرة روائية نشر صفحات منها في الثمانينيات بمجلة باريسية، تحت عنوان “درب العشيرة”، ولا أعرف لماذا تخلى بَّادْريس عن هذا المشروع.. ربما توجس من أن يفك ذلك ارتباطه بعشيقته القصة القصيرة، فلم يتحول ككثيرين غيره إلى عوالم السرد الروائي..
هكذا ظلت القصة القصيرة هي الملاذ الأول والأخير لإدريس الخوري..
حكى بَّادْريس هذه الحكاية ذات مرة، ونحن في نهاية عقد السبعينيات، نجلس بحانة “ماجستيك” بالمعاريف بشارع ابراهيم الروداني، وهي حكاية طريفة تتحدث عن تجربته كعازف إيقاع على آلة الدربوكة، في فرقة غنائية لشباب هواة، تتكون من خمسة أفراد. وقد ساهمت هذه الفرقة قدر إمكاناتها في التعبئة الحماسية وفي إذكاء العواطف الوطنية الصادقة لدى أفراد شعب درب غلف وما جاوره، خصوصا بعد الفرحة الكبرى التي عمت أرجاء البلاد، عقب عودة الملك محمد الخامس من منفاه، وحصول المغرب على الاستقلال في 16 نونبر 1955.
ويا للصدفة الغريبة… فالصديق اللدود لإدريس الخوري، صاحب “الخبز الحافي” الكاتب الشهير محمد شكري هو أيضا اشتغل عازفا على آلة الدربوكة بملاهي وهران في سنوات تشرده وضياعه.
عندما “رفت عين” إدريس..
في حفل بهيج تم تنظيمه بقاعة سينما “الرياض”، التي كانت تقع قبل هدمها بشارع عبد المومن بدرب غلف، وبمناسبة حصول المغرب على الاستقلال وجلاء فرنسا، اعتلى بَّادْريس مع فرقته الموسيقية المنصة لأول مرة أمام جمهور حاشد أغلبيته من النساء والأطفال، وبعد تقديم مقاطع متنوعة من بعض الأغاني المشرقية التي كانت ذائعة وقتها، ومنها أغنية “عيني بترف” للمطرب المصري كارم محمود، والتي لا يزال بَّادْريس يدندن أحيانا بمطلعها:
عيني بترف
يا حبة عيني
ياللي سرقت النوم من عيني
خير انشالله..
ده بعدك والله
والله ده بعدك..
كان على عيني…
وبعدها ستغني الفرقة أغنية الحفل، وهي أغنية تتحدث عن حب ورضا الله عن الملك الذي رأى الشعب صورته على وجه القمر، كل ذلك في أغنية مكثفة من سطرين، وطبعا كان كاتب ومبدع هذه الأغنية السريعة، هو الشاب إدريس الكص، أو كما كان يطلق عليه أولاد الدرب: “إدريس باكا”. (الكاف جيم مصرية). والكص أيضا اسم انتقاه أخ إدريس من فيلم مصري، عندما تم إحداث الحالة المدنية في المغرب بعد صدور ظهير 1950.
وكلمات الأغنية هي:
“يا ربي حبيتيه
في القمر بيّنتيه”
كانت الفرقة تردد هذه اللحن السريع، و بَّادْريس يعزف الإيقاع على الدربوكة بحماسة كبيرة، يزيد من إذكائها تجاوب الجمهور ومطالبته للفرقة كل مرة بالإعادة.
ويضيف بَّادْريس وهو يتذكر مبتسما:
أنه بعد الإعلان عن فاصل قصير للاستراحة، فوجئ بجميع أفراد الفرقة قد غادروا المنصة واختلطوا بالجمهور من أسرهم وأهلهم، الذين استقبلوهم استقبال النجوم، إلا هو ظل جالسا على كرسيه في المنصة، فخالجه إحساس بالخجل وبالغربة، فلا أحد من أقاربه أو من معارفه حضر للحفل، كان بَّادْريس يلبس جلبابا أبيض حافي القدمين، كما كان هو الأطول قامة ضمن أعضاء الفرقة الموسيقية، وفجأة برقت في رأسه حيلة منقذة، عندما وقف وأشار بيده صوب عمق القاعة مناديا على شبح لا يراه غيره :
– وااا مصطفى.. وااا مصطفى..
ثم نزل مسرعا ليختفي وسط الجموع باتجاه إشارته المضللة.
هكذا أنقذ صاحب الدربوكة نفسه من الخجل والغربة.
إدريس محرر افتتاحيات نارية
سيمر عهد الملك الراحل الحسن الثاني، وسيطلق عليه وصف “سنوات الجمر والرصاص”، لم ينل إدريس شيئا أو سعى هو للاستفادة من أي شيء، وكان من المكتوين بلهيب تلك السنوات، خصوصا بعد اشتغاله في صحافة اليسار المعارض، والتي توافق بسهولة مع خطها التحريري المتجاوب مع حماسته المتمردة، حتى أنه مرة أذكر أنه قال لي، ونحن في قاعة التحرير بصحيفة “المحرر”:
– علا ش احنا (يقصد نفسه) ما نقدروش نكتبو الافتتاحية؟
قال هذا بعد أن استقال كاتب افتتاحيات الصحافة الاتحادية الأستاذ محمد عابد الجابري، وأصبح بَّادْريس يقرأ افتتاحيات تعاني مما تعانيه من ضعف وركاكة في المبنى والمعنى لا تليق بمنبر يساري معارض…
ومع ذلك فبَّادْريس لم يصبح يساريا عضويا لأنه اشتغل في صحافة اليسار، لقد قال الأديب الراحل عبد الجبار السحيمي في إحدى المناسبات، وهو يتحدث عن اليسار واليمين في الأدب المغربي ما معناه: “لا يمكن التعامل مع قصة لمحمد زفزاف نشرت بملحق “العلم” الثقافي على أساس أنها قصة يمينية، والتعاطي مع نفس القصة لو ظهرت على صفحات ملحق “المحرر” الثقافي أنها معبرة عن موقف يساري”.
لكن مع العهد الجديد للملك محمد السادس،استطاع إدريس الخوري أن يستفيد من تعاطف بعض كبار المسؤولين في الدولة، وبعض النافذين داخل القصر، من الذين نسج معهم علاقات إنسانية طيبة، وذلك من دون أن يسعى هو، أو يطلب منه، تقديم أي تنازلات قد تناقض قناعاته وتخالف سلوكه الفكري والحياتي. هكذا سيحصل بَّادْريس على بعض الامتيازات المادية الاعتبارية، وقد ذكرنا بعضا منها فيما سلف.
وفي هذا الصدد قائل مازحا: إن بَّادْريس يجازى في عهد محمد السادس على ما قام به في عهد محمد الخامس.
-علاش لا؟
كما يقول بَّادْريس دائما وهو يبتسم ضاحكا.
صور وأسماء في الخاطر
وأراه وهو يقف في باحة القصر الملكي، ينتظر في الصف تحت شمس نهاية يوليوز اللافحة، ليصل دوره بعد المناداة عليه، لمقابلة أعلى سلطة في البلاد والسلام على الملك، والنيل من يديه الكريمتين “وسام المكافأة الوطنية من درجة فارس”. أنه لا بد أن تكون قد مرت برأس صاحب ” مدينة التراب” مجموعة من الشرائط المصورة والأسماء والأحداث بشكل متسارع …
أتخيل، ومن دون ترتيب، ربما تكون ومضت أمام عيني بَّادْريس هذه الأسماء/العناوين الكبرى:
– درب غلف، المعاريف، مرس السلطان، قطع ولد عايشة، عبد الجبار السحيمي، أحمد جارك، محمد زفزاف، أحمد الجوماري البشير جمكار، محمد علي الهواري، محمد الضمراوي، محمد خير الدين، محمد الأشعري، بوعزة الحافر، محمد شبعة، السعيد الصديقي، ميلود لبيض،أحمد زكي الديواني، عبد الله الستوكي، محمد برادة، محمد شكري، أحمد صبري، حسن العلوي فريموس، محمد بنيس، مصطفى النيسابوري، محمد الهرادي، حسن أوريد، رضا عبد الأمير (الأعرجي)، أحمد بوزفور، الأمين الخمليشي، حسونة المصباحي، المهدي أخريف، المهندس مصطفى عزمي، عبد اللطيف إدماحما، زهور العابد (زوجته الأولى )، سعاد … (أم ولديه التي تعيش اليوم في لبنان)، رقم 9 زنقة نابولي بحي المحيط بالرباط …
وتطول لائحة أفراد كتيبة المليشيا التي كانت في السابق من “الأيام.. والليالي” “تكافح” إلى جانب الزعيم إدريس الخوري. ميليشيا لا تعترف بالهزيمة، ولا تملك البياض الذي تصنع به رايات الاستسلام.
من هنا فإن توشيح بادريس هو تكريم لنخبة بعينيها، لصمود جماعة من “الطّابيّة”، ولمرحلة حارقة لها ما لها، وعليها ما عليها..
نبوءة جبرا ابراهيم جبرا
كما أن بَّادْريس، الذي أعرف، وهو ينتظر التوشيح، لا يمكن إلا أن يكون طيف من الحزن الرهيف قد كساه، فهذا الكائن، معجون من تراب الأسى. وقد فطن به ذات يوم الكاتب الفلسطيني الكبير جبرا إبراهيم جبرا، عندما كاتب إدريس الخوري من ببغداد معلقا على مجموعته القصصية الأولى “حزن في الرأس وفي القلب”، قال صاحب سيرة”البئر الأولى”:
“قصص الحزن هاته، فيما أرى، هي قصص رفض مستمر أكثر منها اضطهاد. كلما توغل البطل في ذاته وتجربته كلما ازداد رفضه للآخرين، إلى أن يرفض ذاته في النهاية أيضا. وقد سألتني يوما عن الغربة فيما أكتب، وغربتك هي الرهيبة”.
وهي الفقرة التي وضعها الخوري على ظهر ثاني كتاب قصصي ينشر له (ظلال).
هل هي نبوءة جبرا ابراهيم جبرا الصادقة حول إدريس الخوري؟
نعم، سيحين وقت من الدهر سيرفض فيه إدريس الخوري نفسه، وسيكتب نص”نهاية الكاتب المفترض” (نوفمبر 2014)، وهو النص الأقرب إلى النعي الذاتي، والذي ختمه الخوري بحزن طافح ويأس قاتل لا يليق به، حين خاطب نفسه المحبطة قائلا:
“أيها التعيس، لقد حانت نهايتك “
بَّادْريس … “اعرف من جاك..” أزح عنك قبعة الأحزان.. وانهض.. كما عهدناك مقبلا على الحياة متعلقا بحبها…
واذهب صوب الانتصارات الجميلة.. فالنهايات، كما تعلم، مجرد “حروب صغيرة” أنت أكبر منها وستظل…
وختاما…
أعرف أنه عندما ستصل هذه السطور إلى إدريس الخوري علي أن أنتظر رد فعله كالتالي، يلتفت إلي ويقول بلغته الخاصة : “وأنت سيييير”…
_________
(مع الاعتذار للشاعر الفلسطيني الكبير خالد أبو خالد، صاحب ديوان: “وسام على صدر المليشيا”)
كاتب وإعلامي من المغرب*
تعليق الصورة المرفقة:
إدريس الخوري في صورة نادرة تنشر لأول مرة في جلسة حميمية مع أصدقائه.
من اليسار: الفنان التشكيلي عبد الله الحريري، إدريس الخوري، الفنان والباحث التشكيلي الدكتور عبد الغني أوبلحاج، والكاتب والإعلامي عبد الرحيم التوراني