د. هيثم الحاج علي
تتجلى قدرة الرواية الساحرة على استيعاب العالم، على هضمه وإفرازه في إطار جمالي، وحسبما تنص المقولات النقدية، فان الرواية هي الفن الأكثر قدرة على احتواء الخطابات المتباينة؛ السردي منها والشعري، الادبي والعلمي، الصحافي واليومي.
ولعل هذة السمة بالذات هي الطريق لولوج عالم خالد السروجي الروائي في روايته الأخيرة “الشطرنجي”.
وحسبما ينص العنوان؛ فان هذه الرواية تتماس؛ أو قل تتوازى مع عالم صغير متمثل في الشطرنج. بل انها تحاول – كما يحاول بطلها – أن تصنع من الشطرنج معادلا موضوعيا للحياة، وهي السمة التي ظهرت – بهندسة واضحة – في استخدام الخطاب المعلوماتي متمثلا في نصوص عن تاريخ الشطرنج وفنياته، بصورة متواترة على مدار النص الروائي لتؤدي داخل هيكله دورا بنائيا يؤسس لتصاعد السرد ويوحي بالنقلات الدرامية، وتطور الشخصيات، ويسهم في انفتاح النص الروائي على فضاءات وآفاق تبدو – على ضيقها – أكثر رحابة من ذلك العالم الذي يعيشة البطل.
ولكي نحدد بدقة الدور الذي يؤديه الخطاب الشطرنجي هنا، يجب علينا – بداية – ان نقف ازاء الراوي في هذا النص.
يمثل الراوي في رواية “الشطرنجي” بطلا ثانيا، أو لنقل: بطلا سالبا، فهو – في بداية الامر – نموذج للراوي المراقب من الخارج، الراصد لظواهر الأمور دون التعمق في دوافعها، طالما ظل الامر في إطار السرد المتواقت مع الحاضر، فهو يلعب الشطرنج، ويشاهد المباريات التي يلعبها البطل، وهو يعرفه ولا يكلمه، على الرغم مما سنلقاة من أوجه التشابه بينها فيما بعد، سيبدو إذن ان الشطرنج هو الشيء الوحيد الذي جمعهما معا “على الرغم من كونها أبناء شارع واحد”. حسبما تنص الجملة الافتتاحية.
وإذا كانت صيغة “انا أحكي عن هو” هي المسيطرة على مدار النص الروائي، فان هذه الصيغة التي تسمى “انا مشاهد” – قد سمحت للراوي بالتعليق المؤسس: “أي سحر موجود بالشطرنج”، ومثلة التعليق المفسر:
“لقد حق لي أن أسميه بالشطرنجي.. فلقد كان الشطرنج هو الشيء الاساسي في حياته وما عداه أشياء هامشية”، ثم أخيرا سمحت هذه الصيغة للراوي أن يتحول الى “انا مشارك” في انتقائه مقاطع من مذكرات البطل ليعرضها في صورة مقاطع معلوماتية، هذا الانتقاء الذي يعد تدخلا من الراوي في سير الأحداث، تمهيدا لاتخاذه دورا يقترب من البطولة في الفصل الاخير عندما يؤهله البطل / الشطرنجي لان يتسلم منه الراية.
ونلاحظ انه على الرغم من وضوح الراوي في بداية الاحداث، فانه يظل دورا هامشيا، حتى يبدأ في التصاعد، لنلاحظ أنه فيما بعد نهاية أحداث الرواية سيكون هذا الراوي قد اتخذ بالفعل دور البطولة، في تناسب عكسي واضح مع تطور شخصية البطل الذي يبدأ حياته ايجابيا / مهاجما شرسا في هجومة، ثم يصبح سلبيا / مدافعا راغبا في التعادل، ليصير في النهاية مستسلما لحالة موات تنتهي بموته الحقيقي وانسحابه من الحياة، كما انسحب قبلها من دورة الشطرنجي الكبير.
إن الراوي – بوصفة امتدادا طبيعيا للبطل – يتخذ موقفا في السرد يوازي دور الفاعل، وهو ما يحقق فكرة جريماس عن أن “الفواعل السردية ما هي إلا فواعل نحوية تتموقع داخل نسق سردي”. وعلى ذلك يمكن اعتبار البطل – في تحوله من الهجوم الى الدفاع، متحولا – كذلك – من كونه فاعلا سرديا الى كونه مفعولا، وهو ما ينفي عنه الكثير من سمات البطولة.
ويؤدي دور الراوي، بوصفه فاعلا امتدادا للبطل الى تدخله للتأثير في سير الخط السردي، عبر ما يختارة من مقاطع يقتبسها من اجندة مذكرات البطل الزرقاء. وهو تأثير تفسيري على الأرجح، حيث لا تمثل هذه المقاطع خروجا عن النص بقدر ما تكون هي ذاتها مدخلا اليه، يقوم بالتبئير على أحد مكونات المقطع السردي السابق أو اللاحق.
كما نجد في مقطع “التهديدات والافخاخ”، حين ينتهي هذا المقطع بجملة “وبالطبع فقد يحدث احيانا لمن وقع في فخ منصوب أن يقوم بعمل فدائي يائس للهروب من الخسارة المحتملة، وقد ينجح في ذلك اذا غفل ناصب الكمين لخطة”
فاذا وضعنا هذه النهاية في مقابل نهاية المقطع السردي السابق على هذا المقطع فسنجد الوظيفة التفسيرية واضحة، حيث شوكت – المنافس الارستقراطي للبطل – يسافر / يهرب الى فرنسا، بعد ان قام بعمل انتحاري / هو تهريب أموال الاسرة للخارج، وحين غفل صاحب الكمين / المصادر لامواله، عنه للحظة. وبحيث مثلت الثورة تهديدا لشوكت، وأسرته وطبقته، كما يؤدى المقطع المعلوماتي دورا مشابها في مقطع (العسكري) حيث العسكري، تلك القطعة محدودة الدور في مباراة الشطرنج، في تشابهه مع دور الابله (شكبة) حين يمكنه الخروج عن حدود لعبة المسموحة، و( الترقي) وتملك الحارة / السيطرة على الرقعة. خاصة اذا لاحظنا عنوان المقطع السردي الذى يصف هذا الترقي “العسكري الاسود”.
ويقودنا ما سبق الى دور المصطلح الشطرنجي في تدعيم الرؤية داخل هذا النص الروائي الذي يتردد فيه معظم المصطلحات الشطرنجية، ان لم يكن كلها. ويمكن ان نمثل على ذلك بما يلي:
1- الهجوم: وهو يفيد تحريك قطع الجيش لاتخاذ مواقع سيطرة على الرقعة ومتقدمة للامام نحو ملك الخصم.
ويمثل الهجوم مرحلة شباب البطل التي يحاول فيها الاستحواذ على حياته، فهو يهاجم في اللعب، ويتقدم نحو الحب، ويحاول من اجل عبدالناصر، وهو يتقدم بحماس الشباب نحو حياته المشرقة راغبا في هزيمتها.
2- الدفاع: وهو يمثل تراجع القطع رغبة في الدفاع عن المنطقة التي يوجد فيها الملك ضد سيطرة القطع المهاجمة.
وهو يمثل مرحلة ما بعد اشتراك البطل في حرب اكتوبر، تمثيلا لتراجع احلامه، وهي المرحلة التي تتوازى مع خسارته لحبه قبيل دخوله الى الجيش، تلك الخسارة التي يمكن اعتبارها هزيمة، بقدر اعتبار نهاية الحرب دون نصر واضح وحاسم نوعا من الاستسلام، أو التعادل / باطة.
3- الباطة: وهي ذات دلالتين في الرواية لدى البطل، وتمثل لديه هزيمة دائمة فهو يفضل القتال حتى النهاية ليخرج فائزا أو مهزوما. حيث لا لون ثالث في الشطرنج سوى الابيض والاسود.
غير انه سيتحول في مرحلة ما بعد الحرب، التي اعتبرها باطة، الى هذا اللون الثالث، لينقلنا الى الدلالة الثانية القانعة، في تفاوت واضح مع معادلة الموضوعي (الشطرنج)، حيث ستصبح أدواره كلها – في المباريات وفى حياته كذلك – دفاعا دائما. وستصبح الباطة هي السمة المميزة له في اللعب، حتى يلقب بـ “ملك الباطة” تمثيلا للدور السلبي الذي ارتضاه لنفسه، وتمهيدا لإعداد الراوى في النهاية لاتخاذ دور البطولة الايجابية في شكل من أشكال تعاقب الاجيال.
هكذا يؤدي المصطلح الشطرنجي الى طرح مفهوم اكثر وضوحا لمراحل تطور الشخصية بل وايقاع سردية أحداث حياتها. غير ان السؤال الأهم في هذا الصدد هو:
أين انتهت شخصية البطل / الشطرنجي؟
ان الهيكل العام للرواية يبنى على قصة حياة كاملة، من الميلاد حتى الموت، غير ان النقطة الفارقة التي يمكن عدها نهاية حقيقية لهذه الشخصية هي محاولته للعب – فيما بعد مرحلة الحرب – وحصوله على الباطة على الرغم من وضوح موقفه المؤدي للانتصار.
إن شخصية البطل قد تحولت بفعل الباطة الكبرى / نهاية الحرب الى شخصية مدمنة للاستسلام للامر الواقع، شخصية بطل سالب لا يملك اي فعل ايجابي لاعتقاده في عدم اهمية هذا الفعل حين سقطت الرموز والغايات. خاصة اذا لاحظنا انه اصبح عليه ان يلعب بالجيش الاسود لاول مرة، وهو الذى اعتاد اللعب بالابيض، في تحول دال استخدام عنصر التناقص بين لوني الشطرنج في تمهيد المتلقي لكي يتقبل تلك الحالة السالبة التي سيكون عليها البطل بوصفها خروجا على نمط المعادل الموضوعي، وخروجا على هذين اللونين بتبني لون ثالث رمادي، لا ملامح له ولا شخصية، ولا دور، اللهم الا محاولة إعداد الجيل الجديد – متمثلا في الراوي – لكي يكون مهاجما، في دلالة واضحة على يأس عميق من استعادة الدور القديم.
إن رواية “الشطرنجي”، وان كانت في ظاهرها سردا لحياة شخصية عاشقة للشطرنج، فإنها تعطي – في رؤية واضحة – نموذجا لجيل كامل انهارت أحلامه العظيمة، وتراجعت، وانحصرت في إعداد الجيل التالي لها. ولعل أبرز دليل على ذلك هو كون شخصية البطل / محور الرواية بلا اسم في تعميم واضح على هذا الجيل.
وهو – أيضا – ما يفتح الباب لاعتبار رواية “الشطرنجي” مكتوبة بحبر القصة القصيرة لدى خالد السروجي، ليس فقط لضيق النص وقصره، بل لطريقة معالجة الشخصية من الداخل، تلك الطريقة التي تعتمد ترشيح الذات، وأفكارها، ولعل ما يدعم هذه الرؤية استخدام الكاتب لإحدى قصصة القصيرة من مجموعته “زهرة الدم” في مقطع معلوماتي داخل الرواية.
وهي الأمور التي تؤكد أهمية هذا النص الروائي في مشروع خالد السروجي الفني، وأهميتها كذلك في إحداث إضافة لأسلوب استخدام المعلومات في السرد.
ميدل ايست أونلاين