عبد العزيز المقالح
من تحصيل الحاصل القول بأن الكتابين المشار إليهما في العنوان يمتان ـ بأبعادهما وتجلياتهما ـ بصلة متينة إلى حقل السيرة الذاتية. ولم يعد هناك شك في أن السير الذاتية باتت الأكثر جذباً للقراء، ليس لأن هذا النوع الأدبي يتناول الجوانب الإنسانية الخاصة عن المشاهير فحسب وإنما لما تلقيه السيرة الذاتية من أضواء على الأحداث التي عاشها صاحب السيرة من خلال بث حميم منطلق وكأنه حوار أو مناجاة مع النفس واستذكار أمين لبعض ما شهدته تلك النفس من أحداث ووقائع كانت طرفاً فيها أو شاهدة عليها. والسيرة الذاتية تختلف كثيراً عن المذكرات، الأولى مكتوبة بأسلوب أدبي روائي شديد التناغم والتلاحم، وليس كذلك المذكرات التي تتم كتابتها بلغة المؤرخ الذي يعتمد الوقائع الثابتة والمرفقة بالوثائق. وشتان بين هذه وتلك. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن للمذكرات قراءها المحدودين وأحياناً المتخصصين بشأن من الشؤون السياسية أو الاجتماعية، بينما السيرة الذاتية أقرب ما تكون إلى العمل الأدبي الذي يشد إليه حشداً واسعاً من الناس خصوصاً إذا كان صاحب السيرة على درجة من الشهرة في الصعيدين السياسي والثقافي شأن صاحبة «أرق الروح» و «زمن المتاهة». كنت كتبت شيئاً عن «أرق الروح» وهو كتاب فاتن في لغته ومحتواه، لذلك سيقتصر حديثي هنا عن كتاب «زمن المتاهة» وهو الجزء الثاني من سيرة الدكتورة يمنى. وسأتحدث في البداية – وباختصار شديد – عن عنوان هذا الكتاب وما يتركه في وعي القارئ من استعداد للدخول في متاهة لا يصنعها الزمن بل أهل الزمن، الزمن بريء مما يحدث لنا فيه وما يلحق بنا من متاهات لا حصر لها ولا حدود، وكلها من صنع أيدينا نحن البشر، وهي بالتحديد من صنع القادة والحكام الذين يملأون الزمن بما يشاؤون من السيئات والحسنات. وقد تعمدت تقديم السيئات لأنها أكثر معطيات الحكام العرب في االقرن العشرين وحتى الوقت الراهن. وسأتحدث باختصار أيضاً عن الغلاف الأول للكتاب وعن اللون الأحمر الذي كُتب به العنوان وهو يشبه الدم، بل كأنه الدم ذاته، في أرضية مشققة ذات لون دموي خفيف ليبرز الدم القاني في كلمتي العنوان «زمن المتاهة».
وبعد الإشارة السابقة أسمح لنفسي بالاقتراب من المقدمة في سطورها القليلة لانتزع منها هذين السطرين الموجعين اللذين يوجزان بحزن عميق وبراعة فائقة محتويات الكتاب، والسطران هما «ها أنا أعود في نهاية العمر إلى الصمت.. لكن صمتي اليوم هو صمت مسكون برائحة الموت بعد أن كان مشحوناً برغبة الحياة وبأحلام التغيير» وأتوقف عند هذين السطرين الموجعين الفاجعين لكي أتذكر بأن علاقتي بما تكتبه الدكتورة «يمنى» سواء في كتبها وفي دراساتها المنشورة في المجلات. والمقالات المنشورة في الصحف قد كانت تتميز بقدر هائل من التفاؤل اللامحدود. وكنا ـ زملائي وأنا ـ كلما حوصرنا بالمعوقات والاحباطات نعود إلى كتاباتها فتملأنا بالثقة بالنفس وبالمستقبل، لكن ما يحدث لنا جميعاً الآن وما تعانية أمتنا من تراكم الأحداث الفاجعة يجعل رواد المسيرة الفكرية والوطنية ينقلون صورة الحقيقة كما هي لتتمكن الأجيال الجديدة من تصحيح الخلل وعدم الوقوع في المتاهات وتقديم التضحيات في غير مكانها. ليس ما يحدث في واقعنا العربي اليوم من صنع الصدفة وسوء التقدير بل هو تعبير عن مخططات تدميرية مدروسة يعدها كل الخارج ليتلقفها بعض الداخل لإغراق هذه الأمة بمعضلات ما يكاد بعضها يتزحزح أو ينـزاح حتى تحل محله معضلات أشد وأنكى في محاولة لإلغاء الوجود الإنساني للملايين الغفيرة التي تسكن المنطقة وتسعى منذ وقت طويل إلى ان يكون لها نصيبها من الحرية والعدل والحياة الكريمة التي تشبه ما يوجد عند الآخرين وفي مقدمتهم هؤلاء الذين يضعون معضلاتنا ويباركونها بأسلحتهم ومساعداتهم اللوجستية، وبقواتهم المباشرة كما يحدث في العراق على سبيل المثال. وهو ما يؤكد إصرار تلك القوى على أن يبقى وضع العربي كما هو عليه من السوء إن لم ينجح في أن يكون أكثر سوءاً إلى أن يتحقق لها كل ما تريد في ظروف التفكك العربي وانشغال كل قطر بمآسيه ومعضلاته الداخلية.
في مقدمة هذا الكتاب للدكتورة يمنى فقرة جديرة بأن نتوقف عندها وأن ندرك بإمعان ما يشغلها في هذه الآونة التي يمكن وصفها بذروة المتاهة، والفقرة تقول: «نحن الذين امضينا عمرنا نحلم ونناضل لنحس أحلامنا، بل بعض أحلامنا، لكن العالم الذي صبوت إلى تغييره لم يتغير، بل انتقل من سيئ إلى أسوأ وصار بعضنا أعداء البعض الآخر. وبدل أن نناضل سوية للتحرر من أعدائنا الفعليين الذين يطمعون في احتلال أراضينا ويناهضون مساعينا في النمو والتقدم استيقظنا في جب الاقتتال الطائفي والمذهبي وصرنا نتذابح، ونفجّر بيوتنا ومدننا فوق رؤوسنا. لقد غدونا اعداء أنفسنا، غدونا نحن من يراكم العوائق يقيم سدوداً في مسار طريق ـ سفننا ـ للسير فيه. أحكي بصيغة الجمع نحن أخوة يوسف الذي رميناه في الجب وننتظر مرور أحد العابرين لإنقاذه».
كل كلمة هنا، في هذه الفقرة تعكس واقع التردي السياسي والاجتماعي والأخلاقي الذي صنع زمن المتاهة، وجعل الوطن العربي يتفجر على نفسه بهذه الصورة المأساوية وعلى هذا النحو الأليم، ولم يحدث عبر التاريخ أن تفرغ أبناء الوطن الواحد والأمة الواحدة لاختلاق ما يعوق مسارهم نحو التغيير المنشود ويجهدوا في تنفيذ البرامج التي أعدها الأعداء سلفاً لإحكام السيطرة على وطنهم وتمزيق كل ما كان يربطهم من أواصر القربى ووشائج الوطنية المشتركة… ويصح لي ان اختتم هذه الإشارات بالسؤال الخارق الذي ورد في نهاية الصفحة الاخيرة من الكتاب «أقول لكم وأنا أرى مزيداً من علامات الفرقة فوق وجوه أبناء الوطن الواحد وعلى الألسنة. هل هم أبناء لوطن واحد؟».
السفير