لغز الكاتبة المجهولة


*إيزابيللا كاميرا


لست من محبّي الجوائز الأدبية، ولكنني أحبّ القراءة، سواء قراءة الروايات أو الدراسات الأدبية، أيّاً كانت، لكن، يتعذّر عليّ التحمسّ للمنافسة التي يطلقها الناشرون لأغراض تجارية بحتة. على الأقلّ، لا تمضي الأمور عندنا على هذا النحو. 
ولكن، هذا العام، لن أستطيع أن أظلّ غير مبالية بالأحداث التي وقعت في الجائزة الأدبية المرموقة «ستريجا»، أهمّ جائزة أدبية إيطالية، والتي تعَدّ حدث العام الثقافي الأبرز، والتي، بفضلها، تشهد مبيعات الفائز المحظوظ طفرة مذهلة. وفي الواقع، سيكون في هذا العام خاصّية معيَّنة، لا يمكن إلا أن تثير بعض الفضول. ففي مجموعة التصفيات النهائية التي تتكوّن من خمسة أعمال توجد كاتبة (أو ربما كاتب، من يدري؟) لا أحد يعرف هويّتها/ هويّته، ربما باستثناء «دار النشر» التي تنشر روايتها/ روايته، والتي لن تكشف -طبعاً- هذا السرّ. 
إنها «إيلينا فيرانتي»، مؤلِّفة لعدّة أعمال، كانت من الأفضل مبيعاً، مثل «الحبّ المتحرِّش» (تحوّلت إلى فيلم جميل يحمل الاسم نفسه، من إخراج ماريو مورتوني)، و«أيام الهجر»، و«الصديقة الرائعة» (بدأت الأخيرة سلسلة، وانتهت برواية «حكاية الطفلة المفقودة»، التي دخلت السباق على جائزة «ستريجا»). ومع ذلك، فإن «إيلينا فيرانتي»، غير موجودة في الحقيقة: إنه اسم مستعار، فمنذ عام 1992، عندما ظهرت على ساحة النشر، لأوّل مرة، أُطلِق العنان للتخمينات المتفاوتة لكي تمنح هويّة لهذه الأديبة التي صادفت تقديراً كبيراً، ليس، فقط، في إيطاليا، ولكن، أيضاً، في الخارج، حيث تُتَرجَم رواياتها بانتظام. ففي الولايات المتحدة- مثلاً- أدرجت مجلّة «فورين بوليسي» اسمها ضمن قائمة المئة مفكِّر الأكثر تأثيراً في العالم، عام 2014. ولكن، من هي «إيلينا فيرانتي»؟
سَرَت تخمينات وافتراضات وصلت إلى حَدّ اليأس، فقد تكون رجلاً، وربما كانت هي الناشران في الدار التي تنشر لها، وهي (I/O) وصاحباها هما «ساندرو، وساندرا فيري»، فهل هي مجرّد مصادفة؟ من السهل -طبعاً- تحويل لقب عائلة الناشرَيْن من «فيري» إلى «فيرانتي».
وربما يكون صاحب الاسم كاتبَ نابولي الشهير «دومينيكو ستارنوني» الذي ما فتئ يدافع عن نفسه في مواجهة الصحافيين، وهو ما حدث- مؤخَّراً- عندما نشر روايته الجديدة «أربطة الحذاء». وأمام الصحافي الذي أجرى مقابلة معه في صحيفة «لا ريبوبليكا»، وبدلاً من أن يتحدّث عن كتابه، كان عليه أن يدافع عن نفسه، أمام ادّعاءات الصحافي، بأن أسلوبه قريب من أسلوب الكاتبة المجهولة. 
إن لم يكن هي، فهل يمكن أن تكون زوجته؟ كان هذا افتراض آخر. 
الحقيقة المؤكَّدة أن افتراض كونها رجلاً متخفّياً يثير بعض الانزعاج لدينا، فلماذا لا نفكِّر في أنها امرأة؟ هل الرجل هو، فقط، الذي يمكن أن يكون كاتباً عظيماً؟ ألا تستطيع المرأة أن تكتب بشكل جيّد؟ ومع ذلك، فمن خلال القليل الذي نعرفه عن الكاتبة، يبدو اختيار الاسم المستعار تكريماً لروائية إيطالية عظيمة هي «إلسا مورانتي»، التي يتوافق اسمها في جَرْسه وإيقاعه مع اسم «إلينا فيرانتي»، وأيضاً لأنه يبدو أنها تستلهمها جزئياً، بل وينظر إليها العديد من النقّاد على أنها مَثَلها الأعلى، ومعلِّمها الأوّل. 
ومن الكتّاب الآخرين الذين يُشتَبه بأنهم يختبئون وراء هذا الاسم الكاتب الكبير «جوفريدو فوفي»، وهو ناقد أدبي شهير، يعمل في السينما، ومؤسِّس لمجلّات ثقافية هامّة، مثل «كرّاسات بياتشنتيني» و«خطّ الظل» . ولكن، لماذا تَمَّ التفكير في هذه الشخصية؟ هل يمكن أن يكون السبب هو أن «جوفريدو فوفي» مغرم بالجنوب الإيطالي، ويعرف نابولي (المدينة المفترضة للكاتبة)، خير المعرفة؟ أو، ربَّما، لأنه -مثل الكاتبة- يركِّز على البسطاء من الناس الذين يملأون الأزقة القديمة في نابولي؟ على أيّ حال فإن شخصية «جوفريدو فوفي» العبوس المتجهِّمة، الانطوائية، لا تشجِّع الصحافيين على استجوابه من أجل حمله على أن يخون العهد، ويكشف عن سرّ هذه الكاتبة الغامضة. 
بحسب ويكيبيديا، فإن «إيلينا فيرانتي» وُلِدت في نابولي، عام 1943، فكيف عرفَتْ هذا التاريخ؟ فإذا كان من غير المعروف من يختبئ خلف هذا الاسم (رجلاً كان أم امرأة)، فمن الذي سوف يتقدَّم لاستلام جائزة «ستريجا» إذا قُدِّر له أن يفوز بها؟ أهي دار النشر؟ 
ولكن، متى يزاح الستار عن هذا السرّ؟ أبعد موت المؤلِّفة؟
ولكن، لِمَ كل هذا؟ ربَّما كان هذا مفهوماً من البداية، ولكن، حتى اليوم، وبعد مرور سنوات عديدة؟؟. 
في العالم العربي، كانت هناك حالات كثيرة لمؤلِّفين كتبوا، في البداية، بأسماء مستعارة، مثل محمد حسين هيكل الذي وقَّع رواية «زينب»، عندما نشرها لأوَّل مرة، عام 1914 باسم مستعار هو «مصري فلّاح». ولكن، سرعان ما عرفنا اسم الكاتب الحقيقي، ومثله كثير من المؤلِّفين الآخرين، لا سيّما الكاتبات العربيات في الماضي اللاتي لجأن كثيراً إلى أسماء مستعارة للكتابة بقدر أكبر من الحرّيّة. ولكن -على حَدّ معرفتي- تمّ الكشف عن الأسماء الحقيقية للجميع فيما بعد. الحالة الأخيرة كانت للكاتب الجزائري محمد مولسهول ، الذي عُرِف، منذ سنوات،باسم أنثوي مستعار هو «ياسمينة خضراء». 
أما بالنسبة لكاتبتنا «إيلينا فيرانتي»، فهي منذ أن نشرت روايتها الأولى، عام 1992، لم نفعل شيئاً سوى وضع افتراضات حول هويّتها.
على أي حال، إنه لباعث على السرور أن نرى كتبها تُقَرأ، وتُتَرجَم، وتلفت الانتباه إلى الأدب الإيطالي، حتى في الخارج. هي -إذاً- كاتبة عظيمة، لا تعنيها النجومية أو المجد، وهذا أمر نادر جدّاً في عصرنا.
______
*الدوحة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *