*أحمد ثامر جهاد
خاص- ( ثقافات )
أثار فيلم(المحادثة) لفرانسيس فورد كوبولا عند عرضه عام 1974 حالة من الفزع لدى الأمريكيين وجيرانهم الأوربيين من أن تكون خصوصية الفرد منتهكة إلى هذا الحد، فاستحق بجدارة نيل السعفة الذهبية في مهرجان كان.
رغم المغزى السياسي للفيلم، والذي فسر على أنه إدانة شديدة لادارة الرئيس نيكسون على خلفية فضيحة ووترغيت،إلا أن كوبولا ذهب بفيلمه أبعد من ذلك محاولا استشراف شكل الحياة الأمريكية في ظل انتهاك السلطة لحرمة الفرد وإخضاعه للمراقبة باستخدام أحدث مبتكرات التكنولوجيا من أجل خلق مجتمع منضبط، لكن مروض. كان أمرا مخيفا بالنسبة لغالبية الناس مجرد الاعتقاد أنهم مراقبون حتى في غرف نومهم.
كان بطل كوبولا (جين هاكمان) الخبير في عمليات التنصت متفانٍ في تتبع كل صغيرة وكبيرة تثير الارتياب، لدرجة أن سلوكه الشخصي أصبح انفعاليا وغير ودود، خاصة حينما لا تأتي عمليات المراقبة بنتائج مثمرة بنظر المسؤولين، مع هذا يجب الاستمرار بذلك العمل السري خدمة لسلامة المجتمع والدولة.
الأمر غير السار هنا، هو أن ثمة استهتار متأصل في الوسيلة التي تستخدمها السلطة لمراقبة الناس، فتلك اللاقطة الصغيرة التي توضع خفية في معطفك أو هاتف منزلك أو سيارتك قد تقودك إلى السجن أو الموت، وربما تفتح شهية المتنصتين لسماع المزيد من ثرثرات الأزواج أو العشاق أو الموظفين التي لا تحمل غالبا أي معنى في قاموس السلطة السياسية المنغمسة في التفتيش عما هو خطير.
السلطة لا تني تبرر لجمهورها سياساتها تلك،وتفلسف فعل المراقبة بالضرورات الأمنية التي تضمن سير المجتمع من دون مفاجآت غير سارة. الرقيب ذات مطيعة لسلطة قوية تحول الفرد المراقَب إلى موضوع بارد.ومن الناحية الفعلية الرقيب هو ذات عينية تمارس فعلها الشخصاني بالتجسس على الاخرين،استجابة لسلطة خيالية لا يحضر خلال فعل المراقبة سوى قيمها واوامرها المجردة.
***
بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على فيلم (المحادثة) تناول المخرج الألماني فلوريان هينكل في فيلمه المثير(حيوات الاخرين) الحائز على جائزة الاوسكار لأفضل فيلم أجنبي عام 2007،الآثار المؤرقة والمآساوية التي تتركها أساليب السلطة في التنصت على المواطنين عشية حكم النظام الشيوعي لألمانيا الشرقية،وكيف يتسبب إخضاع الناس للرقابة المتواصلة بخلق حالة من التفكك المجتمعي وتفشي الخوف والإحباط لدى الأفراد،وتاليا ضياع فرص النمو الإنساني.
ومع الصورة الموحشة لعزلة الفرد في المجتمعات الشمولية لن يكون في الأفق أي شئ متروك للصدفة،انها انظمة صارمة لا تؤمن بحريات الرأي وتخشى على نفسها من حدوث أية تغييرات،لذا تجدها محكومة بترهات التشكيك والتخوين.
في(حيوات الآخرين) يكتشف العميل المكلف بمراقبة منزل أحد المثقفين المشكوك في ولائه للسلطة،أن الحياة الشخصية للمثقف وزوجته حافلة بالمعاني الإنسانية والقيم النبيلة،حياة خيرة وليست شريرة كما يدعون،ولا يمكن تكذيب أجهزة التنصت والكاميرات المزروعة في كل غرف البيت. هل يحق لنا مراقبة زوجين يمارسان الحب على فراشهما؟
في كلا الفيلمين جرى مقاربة التحولات التي تطرأ على سلوك وقناعات الشخص المكلف بالمراقبة،وإلى أي حد سيكون بوسعه اخيتار حريته الخاصة وسط تعنت السلطة.
في فترة السبعينيات كانت وسائل التنصت بدائية نوعا ما ويجري التحكم بها وقراءة شفرات محتواها باستخدام خبرات أفراد مدربين للقيام بمهام سرية من هذا النوع. أما في وقتنا الحالي فإن الحياة برمتها أصبحت رهن شبكة تجسس عملاقة تديرها الأقمار الصناعية والآلات المبرمجة وملايين كاميرات المراقبة وأجهزة التنصت، فضلا عن عملاء وكالات الاستخبارات الموزعين حول العالم.
***
فيلم المخرج الشاب ادم رافكن (( LOOK إنتاج 2007 يطرح مشكلة أكبر تمس حياتنا الراهنة وهي الرقابة الشاملة وغير الضرورية على أفعال الناس وأحاديثهم في المطاعم والمتاجر والحمامات والكراجات والجامعات والطرق وقاعات الاجتماعات ومكاتب العمل وسواها.
إن الرقابة أصبحت وسيلة ناجعة متعددة الأغراض وغير مقصورة على السلطات الحكومية فقط،إنما باتت أمرا قانونيا مشروعا في كل البلدان المتطورة،يجري استخدامها من قبل إدارات الشركات والمصانع ومجمعات التسوق والأماكن التجارية والساحات العامة،ويحق للأفراد أيضا مراقبة ما يدور في منازلهم.
يمكن القول إن فعل المراقبة واحد وإن اختلفت أهداف المراقبة ودواعيها.المراقبة رديفة العقاب.والشخص المُراقب هو كائن مكشوف سقطت عنه الأقنعة.
هل يمكن لحياتنا أن تكون من دون أقنعة؟ كم من السلوكيات العجيبة،المخزية،يمكن لكاميرا المراقبة أن تسجلها على الفرد في خلوته ؟
في أولى مشاهد فيلم(انظر) نطالع بعين كاميرا المراقبة فتاتين مراهقتين تغيران ملابسهما في منزع لتبديل الملابس في احد المجمعات التجارية. تخلع الفتاتان الملابس الداخلية وتتحرشان ببضعهما في مزاح جنسي مثير.تسرق إحدى الفتاتين قطعة ملابس من المحل من دون أن يمسك بها. قد تكون المراقبة غير فعالة أحيانا،لكن ليس بالنسبة لشخص غير معلوم في الطرف الآخر يستمتع بما يجري. ولكن على الرقيب أن يخلص في مهمة المراقبة لأن هناك من يراقبه أيضا.
في مكان آخر من المدينة تُقدم عصابة للخطف والابتزاز على قتل شرطي في طريق عام لدى محاولته تفتيش صندوق سيارتهم. يقتل الشرطي ويرمى على قارعة الطريق،فيما تسجل كاميرا سيارة البوليس كل تفاصيل الجريمة التي يهتدي المحققون من خلالها الى القبض على الجناة باستعادة فيلم الكاميرا التي تصور الحادث من دون شريط صوتي.
رجل وزوجته يضعان كاميرا صغيرة في مكان خفي بمنزلهما لغرض مراقبة سلوك مربية المنزل مع مولودهما الجديد خلال ساعات غيابهما.فيما تسجل كاميرا أحد المطاعم المحاولات المتكررة لشخص مختل نفسيا يسعى لاختطاف طفلة صغيرة من أمها.
يذكر الفيلم في مفتتحه أن الفرد الأمريكي يجري تسجيله يوميا باكثر من 200 كاميرا مراقبة تم نصبها في أماكن مختلفة.
تكمن مصداقية هذا الفيلم الطليعي في توظيفه مشاهد صادمة مأخوذة من أشرطة مراقبة حقيقية تمت منتجتها مع مشاهد أخرى مصورة بشكل منح الفيلم روحا وثائقية يراد لها إثبات مصداقية ما يجري حولنا.وعبر أساليب سرد مؤثرة تخالف ما هو نمطي يعمد الفيلم إلى إثارة اسئلة حول المغزى من وراء رصف كل هذه المشاهد التي تبدو للوهلة الأولى انها لا تتصل فيما بينها وكأننا أمام تقرير تلفزيوني،يُثبت التاريخ وموقع الكاميرا ورقهما في كل مشهد.
يبدو أن هناك من يتلاعب بنا وسيظهر لاحقا أن المخرج قد طوّر قصصا وحوادث ذات معنى لإيصال الفكرة وزيادة جرعة التشويق.وفي عدد غير قليل من المشاهد عمد المخرج الى حجب وجوه الشخصيات الحقيقية،وناور في الانتقال من مشاهد كاميرات المراقبة الى مشاهد اخرى جرى تصويرها من زوايا مماثلة لمواقع كاميرات المراقبة،وهي عملية شاقة جعلت التفاعل مع الفيلم يسلك طريقا محددا هو النظر بعين كاميرات المراقبة وعلى المشاهد ان يستدل بنفسه على نوع المشهد الذي يراه من خلال الاختلاف اللوني فيه.
ذكاء هذا الفيلم الذي يشبه إطلاق مزحة لاذعة إنه وضعنا رغما عنا في موقع المتلصص. أحيانا يسرك التلذذ بمشاهدة ما لا يمكن مشاهدته في العلن،كحالة مدير المبيعات الذي يظهره الفيلم مرارا وهو يضاجع خفية عددا لا بأس به من موظفات المجمع التجاري الذي يعمل فيه،مدعيا انه مغرم بكل واحدة منهن.أو ذلك الأستاذ الجامعي المحافظ الذي يقع تحت ضغط الإغراء ضحية لمؤامرة تدبرها إحدى طالباته وتنتهي بمضاجعتها داخل حرم الجامعة. الانكار هنا غير نافع لأن شريط المراقبة يثبت عكس ذلك.تدان الفتاة لادعائها انها اغتصبت من قبل أستاذها،الروائي المعروف،ويدان الأستاذ لأنه أنكر حصول الواقعة. وعلى الدوام الكاميرا تراقب والسلطة تعاقب.
مكان(التلصص- المراقبة)هو فسحة شيطانية جذابة،ليس من السهل سايكولوجيا التخلي عنها،فمهما دافعنا عن حق الافراد باحترام خصوصياتهم وكتمانها،تجدنا ضحية سهلة لاغواء فعل التلصص على حيوات الآخرين.
ولكن لا أحد يجادل أن شهوة التلصص وإن كانت أصيلة نفسيا قبل أن يفككها فرويد حتى،ليس من حقها والحال كذلك أن تتسبب بإلحاق ضرر ما بموضوعها(الذات المُراقبة).
فعل المراقبة بحد ذاته أصبح ثقافة خاصة.ووسائل المراقبة(الكاميرات)المنتجة بماركات واشكال مختلفة من قبل اكبر شركات الصناعة الالكترونية،باتت اليوم سلعة متطلبة من قبل الناس انفسهم الذين يشعرون بامان اكبر بوجودها داخل او خارج منازلهم.
الا ان استعادة شريط المراقبة لحظة مشاهدته سيجعلنا نبدو افرادا مختلفين،مزدوجي الهوية،انفصال مراوغ للذات،يصعب التعرف اليه وتسويغ آثاره. وباستعارة عبارة رولان بارت وهو يعاين صورته:”انا الذي لا يتطابق ابدا مع صورتي”.