نور أبو فراج
أمام حشدٍ من الناس، يعلن رجلٌ أربعيني عن موعد إطلاق أوّل شبكة إخباريّة تبثّ على مدار الساعة طوال أيّام الأسبوع: السادسة مساء 1 حزيران 1980. الرجل هو تيد ترنر، مؤسِّس قناة «سي أن أن» الذي أطلقها لتصبح واحدة من أهمّ القنوات الإخباريّة في العالم، ليخسر لاحقاً ملكيّتها.
قبل أيّام (31/7)، اختارت المذيعة في القناة كريستيان أمانبور زيارة «ربّ عملها السابق» في مونتانا، داخل «مستعمرته الطبيعيَّة» التي تشكل جزءاً صغيراً من أراضيه الممتدّة على 2 مليون فدّان. زارت أمانبور مزرعة أحد أباطرة الإعلام الأميركيين، وجالت معه على مراحل تاريخيَّة ومهنيّة هامّة، وسألته عمّا دفعه إلى تأسيس «سي أن أن» بالرغم من تحذيرات الخبراء، ورغبة المصرفيين باستعادة أموالهم فيها بعد العام الأوّل على إطلاقها.
عرّج الحوار على محطّات مهمّة في تاريخ «سي أن أن»، مثل علاقتها مع البيت الأبيض، وحربها للسماح للقنوات التلفزيونيّة بالدخول إلى مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة، ودورها المفصلي في حرب الخليج الأولى، الحرب ذاتها التي اشتهرت خلالها أمانبور كمراسلة حربيّة. وردّاً على سؤال أمانبور، رفض ترنر القول إنّ توجّه القناة كان «مناهضاً لأميركا» في تلك المرحلة، على اعتبار أنَّها كانت القناة الوحيدة التي غطَّت من الأراضي الكويتية «خلف صفوف العدو»، ويصرّ على أنّ توجهها حينذاك كان «خدمةً للبحث عن الحقيقة».
تحدَّث ترنر خلال الحلقة عن خسارته «سي أن أن»، معترفاً بأنَّه لم يتجاوز الخسارة، لكنَّه يتعلَّم أن يعيش معها، بعدما اضطر لبيع حصّته في «شركة ترنر» التي لا تزال مالكةً للقناة.
يسترجع الرجل السبعيني زيارته لكوبا ويبررها «بدافع الفضول»، معتبراً أن ذلك هو جوهر صناعة الأخبار. ويؤكّد أنَّه بقي «معادياً للشيوعية» كأبيه، وأنَّ زيارته إلى كوبا لم تغيّر من ذلك التوجه بالرغم من «دعواته للحوار والانفتاح على ثقافات أخرى».
وبعيداً عن الشأن الإعلامي، تطرَّق الحديث للاتفاق النووي الإيراني والاستثمار في مجال الطاقة النظيفة. وفي الختام، اختار ترنر قراءة بعض المقتطفات من مسرحية شكسبير «ريتشارد الثالث» على اعتبار أنّه درس الأدب الكلاسيكي. ألقى بهدوءٍ واثق مقاطع شعريَّة عن الشرف، قائلاً ألا «عيوب لطخت شرفه طوال ممارسته لمهنته»، مضيفاً أنّه في مجال صناعة الأخبار من السهل جداً الانزلاق نحو الفساد واستخدام نفوذ المال… هي نهاية مسرحية للقاء ربما، لا تتوافق مع واقع صناعة الإعلام وكواليسها. فترنر الذي ورث الكار عن أبيه، كان ماهراً في كشف «أصول اللعبة الإعلامية»، إذ أنه أدرك ضرورة «الاستثمار» في مجال أخبار الرياضة والحرب. استطاع استقطاب ملايين المتابعين الراغبين في مشاهدة مباريات كرة المضرب أو المصارعة، كما استأثر باهتمام الجمهور أثناء تغطية أحداث مثل حرب الخليج أو 11 أيلول. كان مخلصاً في خدمة صورة أميركا والدفاع عن مصالحها، وإن كان ذلك بأسلوب ليبرالي يتظاهر بالموضوعيّة ويظهر تشدّداً أقلّ مقارنة بـ «فوكس نيوز» وغيرها من الشبكات الأميركيّة.
وإلى جانب تأسيسه «سي أن أن»، عمل ترنر على إنشاء عدد من الشركات العاملة في مجال الإعلان والرسوم المتحرِّكة، وصولاً لامتلاك علامة تجاريَّة خاصَّة باللحوم، إلى جانب مؤسسات خيريّة وأخرى تهتمّ بالتصدي لأخطار الأسلحة النوويّة.
تستخدم أمانبور عبارات من قبيل «باني الجسور» للحديث عن دور «سي أن أن» في العلاقات بين الاتحاد السوفييتي وأميركا زمن الحرب الباردة، كما لو أنَّها تصدّق أنَّ الصورة قد تكون حالمة هكذا.. وكأنّ دور «سي أن أن» في تلك الملفات نابع من رغبة مؤسسها في فتح «حوار كوكبي» وتشييد الجسور بين الأطراف المتصارعة، بدلاً من البحث عن الربح وتنفيذ توجّهات سياسيّة تكون المنابر الإعلاميَّة مدخلاً أو ممهِّداً لها.
ليس من باب المصادفة أنَّ نمط الحياة الذي يعيشه ترنر يشابه الصورة التي أدار فيها «سي أن أن». فـ «الجدّ الأميركي» خفيف الظلّ هو نموذج للاحتكار، سواء كان ذلك باحتكاره مساحات شاسعة من الأراضي والمحميات الطبيعية ــ تحت شعار عشق الطبيعة والنسور والثيران والطاقة المتجددة ــ أو احتكار صناعة الأخبار حول العالم من قبل «سي أن أن» وعدد قليل من الشبكات الإعلامية. تحاول أمانبور رسم صورة ترنر باعتبار أنه، وبالرغم من تقدُّمه في العمر وصراعه مع السرطان، ما زال نفس «راعي البقر» الذي يصلح لأن يكون رمزاً للحلم الأميركي القديم المستجد، في قدرته على تجاوز الصعاب، وتحقيق ما يصبو إليه، وتعلّم العيش مع الخسارات.
السفير