*هالة صلاح الدين
مضت قرون خضعت فيها النساء الصينيات لآبائهن وأزواجهن وأبنائهن، تبعتها سنوات من الاضطراب السياسي جعلت النساء يخفن من المجاهرة بمشاعرهن وأفكارهن. ولكن شينران حازت بصورة سحرية على ثقتهن، ومن خلال تعاطفها ورهافة إصغائها أصبحت أول امرأة تستمع إلى قصصهن الحقيقية.
تناولت في كتابها الجديد “اشْتَرِ لي السماء: القصة الحقيقة لجيل الطفل الواحد في الصين” قانون الطفل الواحد وانتهاكه لحرية الفرد، مجيبة عن الأسئلة المطروحة بشأن ضرورته الاقتصادية والاجتماعية من عدمها.
انتقلت شينران عام 1997 إلى لندن، ولا تزال تعتبر نفسها صينية قلباً وقالباً. قالت لي ضاحكة، “صينيتي المفرطة تمنعني من أن أكون إنكليزية” شينران ليس اسمها الحقيقي. وحين سألتها عن سر اختيار الاسم وإن كانت تتخفى من ماض سابق أو تود إلغاء هوية سابقة، رفضت الإجابة.
أسست في عام 2004 مؤسسة خيرية مقرها بريطانيا تحت عنوان جسر الأم للحب بغرض “مد يد العون إلى الأطفال الصينيين في كل أرجاء العالم: من تربوا خارج الصين، من تبنتهم أسر غربية، من يعيشون في ظروف معيشية بائسة بالصين”. وهكذا تجاهد لمد جسور التفاهم بين الصين والدول الغربية لمساعدة هؤلاء الأطفال المغتربين على استيعاب أصولهم وجذورهم.
وقد أطلعتنا في حوارها مع “الجديد” على الوجه السلبي للاقتصاد والمجتمع الصينيين.
◄ الجديد: الصين نموذج اقتصادي خارق، تكاد تكون ظاهرة متفردة. فقد تطوّرت في غضون العقدين الماضيين بسرعة متناهية على المستوى الاقتصادي والعسكري. يقول البعض إنه من المحتوم لهذا التقدم المتسارع أن يشهد انخفاضا متسارعا على نحو معادل. هل تنتابك أيّ مخاوف من انزلاقه إلى مزالق تعوق بلوغ الرخاء؟
*شينران: لا شك أن الصين أنجزت في الثلاثين عاماً الأخيرة عدداً من التحسينات. انتقلت من اقتصاد فقير، اقتصاد “الأخ الأصغر”، لتصير قوى عظمى. لم يسبق لدولة أخرى في تاريخ الإنسانية أن حسَّنت من الظروف المعيشية لما يزيد على بليون نسمة في مثل هذه الفترة الوجيزة. لا أعتقد مع ذلك أنه وضع اقتصادي يقف على أرضية ثابتة لأنه تشيَّد دون نظام قضائي مستقل أو معرفة عالمية ذات خبرة أو حرية تعبير.
ولكني أعتقد شخصياً أن الصين في سبيلها الصحيح في اتجاه المستقبل. قد تقْطع مسيرة طويلة حتى تصل إلى مجتمع عادل وتُحقق منظوراً عالمياً، ولكن الجيل الجديد من موظفي الحكومة الصينية أدركوا الأخطاء التي ارتكبوها جراء التطورات المتغيرة المتسارعة كالفساد ونقص الخبرة والنظام القضائي الرديء. لذا شرعوا في اتخاذ خطوات أكثر فعالية من أجل تطهير نظام الأحزاب السياسية وإعادة تشكيل الاقتصاد الصيني.
مجتمع العائلة
◄ الجديد: صرحتِ يوماً بأنك “متفائلة بمستقبل الصين”. كيف يستقيم تفاؤلك مع ديكتاتورية متشعبة تتفشى في كل نواحي الحياة في الصين ويد سلطوية تتسلط على الدين والحريات الجنسية وتنتهك حرية التعبير في وسائل الإعلام والشوارع وتضيّق تماماً على التعددية السياسية؟
*شينران: السبب الذي يجعلني مؤمنة بالأمل في مستقبل إيجابي للصين هو أن هذه الأمة تُرسّخها حضارةٌ ترجع إلى ما يربو على 5000 عام، ويُشكلها مجتمعٌ يتكل على العائلة، وتَنعم بثقافة في منتهى الثراء، ثقافة تتعلق بكل شيء بدءاً من الوجبات اليومية وصولاً إلى المعتقدات الروحية. وعليه فإن أيّ فترة قصيرة من الفوضى السياسية أو حتى الحرب الأهلية لن تستطيع أن تقضي على الأساس المتين الذي تقف عليه الصين.
الحق أن مواطني الصين لم يجمع بينهم أبداً دينٌ قومي. فقد أقبلت كل الأديان إلى الصين بعد فترة طويلة من الفلسفة الصينية القديمة، على الأقل بعد 1500 عام. وبمقدورك أن تري من لغتنا وفلسفتنا وحياتنا اليومية أن الدين لم يكن قط في محور المجتمع الصيني.
أمَّا الجنس، فهو جانب كبير جداً من الاختلاف الثقافي بين الصين وبقية العالم. لو تعلمين كيف يحترم الصينيون الفراش، سوف تفطنين إلى أننا نتعاطى معه بجدية أكبر بكثير من أيّ ثقافة أخري. إن الفراش بالنسبة إلى الصينيين هو “أرض العائلة المقدسة”.
أمَّا حرية التعبير فهي أصعب باب يمكن فتحه أمام الثقافات الشرقية. يمكنك أن تعي الصعوبة في العائلات الشرقية: يكاد يجرؤ الأطفال على مناقشة آبائهم أو معلميهم أو أيّ شخص يحتل مرتبة أعلى أو سنّا أكبر، ولكن دون حرية التعبير لن ننال مجتمعاً عادلاً. حرية التعبير معضلة في الصين غير أنها ليست معضلة في الصين وحدها. إنها، بطريقة أو بأخرى، مشكلة كل دولة. ولا زلنا نحارب في سبيل معتقداتنا وعدالة ذات وجه واحد للجميع.
حزب أبوي
◄ الجديد: يمكن وصف الصين بأنها مخلوق ذو جسد رأسمالي ورأس شيوعي، ألا يمكن أن يهدد هذا التناقض البيّن الدولة ذاتها بالانهيار يوماً؟ كيف بوسع الحزب الشيوعي التطور ليصبح ديمقراطياً وهو لا يزال يهيمن على كل قطاعات الحياة العامة؟
*شينران: أجل، تَلوح الصين في اللحظة الحالية مثل هذا المخلوق. ولكني أعتقد أن الحزب الشيوعي الصيني تحوَّل إلى حزب سياسي مختلط يضم شيوعيين ورأسماليين إبان الثلاثين عاماً الماضية. وما مكَّنهم من الهيمنة على كل جانب من جوانب الحياة العامة هو لعب الحزب السياسي دوراً أبوياً في مجتمع يعتمد على القيم العائلية.
الحق أني أتفق لدرجة ما مع تصوير الإعلام الغربي للمجتمع الصيني باعتباره مجتمعاً يقهره النظام السياسي ويتلاعب به إلا أن الإعلام الغربي يفتقر هو الآخر إلى المعرفة بتاريخ الصين وثقافتها. لذا يَنقصهم الكثير من الاستيعاب لِما يفكر فيه الصينيون وكيفية بلوغهم هذا التفكير.
تلك الهوة
◄ الجديد: هل تعتقدين أن الشركات الغربية الرأسمالية العاملة في مدن الصين وقراها، موظِفةً الأيدي العاملة الرخيصة، تفي بحق العامل الصيني؟
*شينران: لا، بالقطع لا. إن تعاملاتها يشوبها الاستغلال والسخرة. لقد تولاني الغضب من هذا الوضع عندما كنتُ أجري الأبحاث في الثلاثين عاماً الماضية. وبالرغم من إدراكي أن ذلك الدخل الزهيد جداً يزيد بكثير عن أيّ شيء قد يكسبه أغلب المهاجرين من الريف من الأرض خلال عام، أعتقد أن العديد من الشركات الرأسمالية جنت أموالاً غير شريفة من أجل الربح ليس إلا. أعتقد أيضاً أن المزيد والمزيد من الأيدي العاملة الرخيصة سرعان ما ستعي هذه الحقيقة وتطالب بحقوقها من الشركات الرأسمالية.
لم تعد هوّة الفقر الساحقة تقتصر على الصين وحدها، يمكن أن نجدها عبر العالم في الأنظمة المالية والاستثمارية الفاسدة. وسوف تدفع الصين ثمن هذا الوضع إن لم تستطع الحكومة التحرك في الوقت الملائم، ولهذا سوابق في التاريخ الصيني.
أصوات الشرق
◄ الجديد: كيف ترين خيارات الصين السياسية، ولا سيما دعمها غير المنقوص لنظام بشار الأسد في سوريا؟ هل يعبأ المواطن الصيني العادي بالربيع العربي أم أنه منهمك في قوت يومه؟
*شينران: لقد تحدثت بالفعل عن هذه العلاقة في كتاب “شاهد الصين: أصوات من جيل صامت”. يهتم الصينيون حقاً بما يجري في الشرق الأوسط لأن رابطاً عميقاً يربط تلك المنطقة من العالم بالمسلمين الصينيين منذ ما يعود إلى 1500 قبل الميلاد على الأقل، وأحد أسباب هذا العمق كان طريق الحرير قديماً وكون المسلمين الآن أكبر أقلية في الصين. يتقاسم المسلمون الصينيون نظاماً عصبياً متأصلاً مع الشرق الأوسط.
جبال الماء
◄ الجديد: كتبت عن حقوق الإنسان في إقليم التبت في كتاب “دفن سماوي”، كيف تمكنت الصين من التحكم في هذا الإقليم طيلة كل هذه السنوات؟ وهل يستغل النظام سلمية أهل الإقليم؟
*شينران: لو تطلعتِ إلى الخريطة، سوف تكتشفين أن 95 بالمئة من مصادر الصين المائية تنبع من التبت. لذا مع اكتشاف الصينيين لذلك في العهود القديمة، لم يتركوا التبت مطلقاً تحت سيطرة أحد، ولا حتى سيطرة أهلها. في الوقت ذاته لا تنتج التبت شيئاً، وكذا الدول المتاخمة لها، وعليه فالمؤن الحياتية، عدا الطعام وتربية الثور البري، تأتي من التجارة مع الصين. لقد تواصلت التجارة على طريق الحرير لمدة 3000 عام بسبب هذه الحاجات المتبادلة. أعتقد أن الصينيين وأهل التبت يسعون إلى السلام من أجل مستقبلهم. لم أؤمن قط أن الحرب تجلب السلام أو تصنعه بين الثقافات المختلفة.
أجل ولا
◄ الجديد: تسددين بصراحة مطلقة علامات الإدانة إلى أشرار الصين على كل المستويات، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. هل تخشين أيّ اتهامات بالخيانة يصوبها إليك موالو النظام في بلدك الأم؟
*شينران: أجل، ولا. أجل، لأن سوء الفهم قد يؤذي الناس أحياناً. لا أود أبداً أن أجرح أيّ صيني كابد الكثير في حياته من جراء الفقر والفوضى السياسية والحروب الأهلية والرقابة والجهل الجنسي.
لا، لأنه من واجبي كصحفية أن أجاهر أثناء حياتي بحقيقة ما يقع في الصين، وأن أهِب الصينيات صوتاً، فهن لم يفزن قط بفرصة للحديث علانية. ودون قدر من الصدق والإنصاف، لن ننعم بأيّ عدالة أو تفاهم.
أزواج آلهة
◄ الجديد: كانت الصينيات يعتقدن – ولا زلن يعتقدن في الريف – أن أزواجهن آلهة. هل لاحظتِ تغيراً كبيراً بين وضع المرأة الصينية حين كنت تقدمين برنامجك الإذاعي ووضعها الحالي في المجتمع؟
*شينران: الصين بلد مترامية الأنحاء، تقريباً في حجم أوروبا بأكملها، وهناك فجوة عظيمة بين المدن والأرياف. لذا تختلف توجهات الصينيات وفقاً لموقعهن أو حتى الجيل الذي ينتمين إليه. وفي الأغلب لا تختلف رؤية ساكنات المدن للحياة عمّن يعشن في الغرب لأنهن حصلن على قدر من التعليم. ولكن الريفيات الفقيرات لا زلن يعشن بالمعتقدات والتصرفات التقليدية ذاتها التي اعتنقتها الأجيال السابقة.
يد الرقيب
◄ الجديد: تُرجم كتابك الشهير “نساء من الصين: قصص وأسرار” إلى أكثر من 30 لغة عالمية، ومنها اللغة العربية عن دار الساقي اللندنية. يضم قصصاً تؤطر القيود الخطيرة المفروضة على الصينيات، ويتكل على حكايات مروعة تناهت إليك من الصينيات عن القهر والجنسانية والفقر وسفاح القربى والاغتصاب وإساءة المعاملة. كيف كان رد فعل السلطات على برنامجك الإذاعي؟
*شينران: لم يسمحوا أبداً بإذاعة معظم القصص المنشورة في “نساء من الصين”. وكثيراً ما عاقبوني لبرامجي “الطائشة” التي اتكلت على حواراتي. لأن أيّ شيء يتعلق بالدين والتاريخ والنظام القضائي والجنسانية ممنوع في وسائل الإعلام العامة حين كنت أعمل هناك. طفقوا الآن ببطء يتحدثون في هذه المواضيع غير أن الكثير منها لا يزال تحت سيطرة يد الرقيب. يحوي الكتاب قصصاً مروعة أحلم بها ليلاً فتفزعني مثل “الفتاة التي ربَّت ذبابة” و”التل الصارخ”.
جسد المرأة
◄ الجديد: أيديولوجيا هل تصنفين نفسك كنسوية؟
* شينران: أعتقد أن الأمر يتوقف على معيار الحكم على النسوية ذاته. أؤمن بأن هناك فروقاً هائلة بين الرجل والمرأة، جسدياً ونفسياً، وأظن أنه من الصعب فهم المساواة بين الرجل والمرأة دون فهم الفروق بين النوعين. الأم التي تختار أن تكون ربة منزل ينبغي أن تتقاضى أجراً على تربية أطفالها لأن الأمهات هن أول معلمات للأولاد، يضعن الأساس لمستقبل المجتمع، وهن جزء لا يتجزأ من المستقبل المهني للرجل. ينبغي أيضاً أن تأخذ النساء إجازات خلال دورتهن الشهرية طيلة مسيرتهن المهنية لأنهن يدفعن ثمناً جسدياً لمستقبل التطور البشري. وينبغي للنساء أن ينلن الحق في اتخاذ القرارات بشأن أجسادهن.
_____
*نشر المقال في صحيفة “العرب” بالاتفاق مع مجلة “الجديد” الشهرية الثقافية اللندنية