عبد الحليم المسعودي**
( ثقافات )
(1)
قد لا يختلفُ أحد في أن ” إكرام الميّت دفنُه ” .
هذه المقولة الشّهيرة التي رشحها بعض الفقهاء إلى قول نبوي تؤكد أن الدفن و من قبله ” التغسيل ” و التكفين هو الحالة الوحيدة التي يتم فيها تكريم الإنسان , بعد أن شبع هذا الإنسان من المهانة و الإذلال في حياته حتى لكأن الدّفن هو لحظة التكريم الوحيدة .
و يبدو أن مقولة ” إكرام الميت دفنه ” ليست في الحقيقة إسلامية و إنما هي قديمة قدم الحضارة و يكفي أن ندرك أن طقوس الموت في الإسلام سواء خص ذلك الغسل أو التكفين أو دفن ما هي في الحقيقة إلا طقوس عرب ما قبل الإسلام (*) كما يكفينا في ذلك قراءة التراجيديا الإغريقية لنتأكد أن مسألة الغسل و التكفين و الدفن مسألة أخلاقية إيتيقية في الصميم ربما اهتدى إليها الإنسان اهتداء غريزيا من قبل أن تضفي عليها الأديان صفة القداسة . و الكل يذكر المعركة الشرسة التي قادتها أونتغون Antigone ابنة الملك أوديب من أجل أن تحصل جثة شقيقها بولينيس Polynice على قبر لائق به . و الناظر في الإلياذة سيقف على تذلل ملك طروادة برايم Priam تحت أقدام أخيل Achille حتى يمكنه من دفن ابنه هكتور Hector دفنا يليق به .
و يبدو أنه حول هذا الميت الذي هو في انتظار الغسل و التكفين و الدفن قد نشأت في تونس منذ صعود الإسلاميين ” صحوة جنائزية ” فريدة تقف ورائها جمعيات دينية قرآنية و خيرية و أخرى دعوية . و نشطت من حولها سوق كُرّسَ مٍرْجلُه لتكريم أو إكرام هذه الميت الذي لم تنجح الثورة في تحقيق كرامته . من ذلك نشوء “حراك ” لتعليم التغسيل و التكفين الشرعي سواء من خلال الإعلان عن دورات تكوينية لهذا الغرض أو تنظيم لقاءات مع بعض الدعاة الوهابيين للمحاضرة و التطبيق في هذا الشأن (*) أو نشوء مدارس للتدريس التغسيل و التكفين و طرائق الدفن الشرعي . و لا يكاد مسجد من المساجد في تونس تخلو أبوابه من الملصقات و الإعلانات عن هكذا نشاط . و لقد رأيت مؤخرا في منطقة العمران الأعلى و في الطريق المؤدية لحي الزياتين بالعاصمة ليس بعيدا عن إحدى المساجد انتصاب بناية علقت يافطة على بوابتها ” مدرسة إكرام الموتى لفقه الغسل ” .
(2)
و في اللحظة التي تنهار فيها مدارسنا و ينهار فيها تعليمنا كما ينهار فيها إيماننا بالدولة , أي في اللحظة التي تنهار فيها الحياة الممكنة من خلال ما يمكن للمدرسة أن ترسمه من حدود ميتافيزيقية لحياة ممكنة , حياة مرتقبة محمولة على الرجاء , تنشأ مدارس جديدة في سياق هذه ” الصّحوة الجنائزية ” تجاهد من أجل احتكار تصريف الخلاص , مما يدل على أن مجتمعا آخر هو بصدد التمدد في المجتمع التونسي , مجتمع آخر في طريقه إلى المفاصلة و البراء , مجتمع له مدارسه الدينية الخاصة و جامعاته الخاصة , و مساجده الخاصة , و وسائل إعلامه الدينية الخاصة و قاعات أفراحه الخاصة , و طرائق نكاحه الخاصة , و ملاعبه الخاصة و رياض أطفاله الخاصة , و ملابسه الخاصة , و مجتمعه الملّي الخاص , و فنادقه و مصائفه الخاصة و مدارسه الجنائزية الخاصة و ربما مستقبلا ستكون له محاكمه الشرعية الخاصة و ربما مقابره الخاصة .بعبارة أخرى مجتمع مواز له دينه أو إسلامه الخاص .
أعتقد أن انتعاش هذه الصّحوة الجنائزية بقطع النظر عن ما يرتبط بها من مصالح و من تجارة خفية هو الرّهان على صورة الموت و سطوتها الرمزية على الناس و استعمال هذه السطوة , أي الخوف من الموت , في التمكن من عقول الناس و استثمار خوفهم الباطني اللاوعي من الموت في السيطرة على حياتهم من خلال سيطرتهم على ما يمكن أن نسميه انثروبولوجيا بالتحكم في احتكار صياغة طقوس العبور . ففي طقوس الموت ثمة دائما ما يسميه جون بيار فرنان J.P.Vernant بـ ” سياسة الموت ” politique de la mort و هي قابلة في رأينا للتصريف في سياق سياسي أيديولوجي .
و وراء كل ذلك ثمة مكينة ضخمة هي بصدد تهيئة التربة لهذا المجتمع الموازي , هي ماكينة ما يسميه بودريار Baudrillard بــ ” ماكينة الخلاص ” machine de salut (*) التي تعمل على مراكمة الشعور بالجحيم السيكولوجي في الحياة اليومية للمؤمن الصادق .و بحكم هذا الشعور بوطأة “ماكينة الخلاص ” هذه يتم تدجين هذا الشعور سيكولوجيا من خلال تكريس ثقافة الموت التي تحاصره بأدبيات عذاب القبر و الإعجاز العلمي للقرآن و عالم الجن و ماورائيات الجحيم و الفردوس و هوس احتساب الحسنات و فقهها , فيسهل عند ذلك انقياده إلى دائرة الطاعة العمياء …
ألم يرفع حزب ديني في الانتخابات في تونس شعار من لا يصوت لهذا الحزب يدخل النار و يحرم من الجنة ؟ .
(3)
المدرسة التى كرس معناها بورقيبة هي الأيديولوجيا الوحيدة التي بلورها الزّعيم في النظرية و الممارسة . البعض من أهالي السّاحل إلى اليوم يسمّون المدرسة ” السكولا ” Scola الكلمة الإيطالية بديلا عن كلمة ” المكتب ” الدارجة عند التونسيين , و هي تسمية ربما من بقايا التسميات الإيطالية في لغتنا المحكية . لم يكن الأمر سهلا على التونسيين زمن الاستعمار مزاولة الدراسة في تلك المدارس الإفرنجية العصرية فعلاوة على تخوف المستعمر من تعليم التونسيين العقلية التقليدية التونسية المحافظة ساهمت في صد التونسيين عن مزاولة التعليم و يمكن أن نذكر في السياق العنت و الأذى الذي تعرض له الشيخ سالم بن حميدة المعروف بـ ” فيلسوف الساحل ” صديق الطاهر الحداد و أبي القاسم الشابي من بني جلدته في أكودة عندما أقدم على إدخال بناته للدراسة في إحدى المدارس الفرنسية في سوسة … و هناك في بلاد الزّغالمة و تحديدا في منطقة سيدي أحمد الصالح نشأت حول مقامه قرية صغيرة سميت ” بالمدرسة ” , لأن أهم معلم نمت حوله المساكن كانت مدرسة بسيطة بنيت أثناء فجر الدعوة البورقيبية لإنشاء المدارس في الأرياف و التطوع من أجل بنائها فتحولت المدرسة إلى بؤرة عمرانية في ريف بلاد الزّغالمة . أيديولوجيا بورقيبة حول فكرة المدرسة العمومية للجميع هي الأيديولوجيا الوحيدة التي تحولت إلى عقيدة عند التونسيين فبذلوا من أجلها الغالي و النفيس حتى أن ظهور المدرسة في مكان من البلاد التونسية قد ساهم في تغيير البنية العمرانية و القبلية السائدة و من بعد ذلك التغير في العقليات .
(4)
لكن ” مدرسة إكرام الموتى ” هذه ليس إلا ورما دلاليا سيميولوجيا لفكرة المدرسة نفسها . مدرسة التخويف و الترهيب و النكد و الأحزان . إنها امتداد لتلك المدارس و الرياض القرآنية التي تتعسف على الطفولة باسم تعليم التقوى مبكرا , إنها إمتداد أيضا لمعركة تطبيق الشريعة في كتابة الدستور التونسي الجديد , إنها أيضا امتداد للنشاط الدعوي و خيامه أمام المعاهد الثانوية و امتداد لاستقبال الدعاة من فجاج الصحراء النجدية . إنها مدرسة الموت بوصف أن هذه الحياة عندهم فرصة لتعلم الموت فتكون النقمة تمرينا يوميا على معاداة الحياة و مظاهرها … إنها مدرسة الموت القادم و بديل لـ ” السكولا ” الإيطالية scola ذات الأصل اللاتيني schola ذات الأصل الإغريقي scholé و التي تعني ” الترفيه ” le loisir و في اللاتينية ” الترفيه المخصص للتعلم ” loisir consacré à l’étude و كأن هذا المعنى المرتبط بالترفيه و التعلم أو البهجة و الدراسة تلخص مقولة الرسول الأكرم ” علموا أطفالكم و هم يلعبون ” و تلتقي ربما بالفكرة النيتشوية المتعالية ” بهجة المعرفة ” . و فكرة ” الترفيه” هذه في أصلها الإغريقي هي فلسفة قد حافظت عليها اللغات الأوروبية الأخرى ( كلمة المدرسة school في الانجليزية و كلمة المدرسة Schule في الألمانية و كلمة مدرسة escuela الإسبانية , و كلمة المدرسة scoala في الرومانية (رومانيا) ) لأن المعنى الأصلي فيها خارج عن دائرة الشّعور بالذنب و بالبؤس … ” مدرسة إكرام الموتى ” هي أيضا امتداد لفشل المدرسة التونسية و عجزها اليوم على أن تكون مدرسة للجمهورية و لزيف المشروع التنويري .
(5)
اليوم ذكرى جديدة لميلاد الزعيم الحبيب بورقيبة … على صوت العندليب عبد الحليم حافظ و هو يغني أغنيته الشهيرة ” يا مولعين بالسهر ” ( كلمات عبد المجيد بن جدو و تلحين بليغ حمدي ) التي منع بثها منذ سنوات و لا يتذكرها البعض من الأجيال الجديدة , أغمض عيني و أسأل في قاع السريرة : ماذا تبقى من بورقيبة ؟ … أعتقد لا شيء قد تبقى غير ” خيال الذئبة المرضعة ” كناية عن المدرسة .
أجل المدرسة . تلك البناية الصغيرة النائية . المدرسة – مدرستي أنا على الأقل – التي كان ينُوس بياضُ جدرانها و أحمرُ قرميدها في غبش الفجر و نحن نركض صوبها طيورا مفزوعة فارغة الحواصل نقطع المسافات الطويلة حتى نصلها في الشتاء هاربين تحت جناح الظلمة من أصوات الذئاب و الرياح المزمجرة في الفجاج … تلك المدرسة التي أطعمتنا من جوع و آمنتنا من خوف .
” الذئبة المرضعة ” استعارة عن ذئبة التأسيس الرومانية التي أرضعت روموس و روميلوس كأبنائها , لعل ثمة اليوم أجيال فيها شيء من تلك ” الذئبية ” أي الذئبية البورقيبية , إنها ليست ذئبية هوبز Hobbes ( الإنسان عدو لأخيه الإنسان ) , و ليست ” ذئبية” الإنفراد و التوحش في جبل الشعانبي و ريف سجنان , بل هي ذئبية الاعتراف بالجميل و تمثل الإرث التليد الذي تركه بورقيبة و أهمه المدرسة للجميع . إنها ” الذئبية البورقيبية ” في جعل المدرسة مبدأ كل شيء إذ لا دولة بدون مدرسة و لا هوية وطنية بدون مدرسة .
(6)
السواحلية حين ينطقون كلمة ” سكولا ” ربما لا يدرون أنهم ينطقون كلمة إغريقية قديمة تعني ” البهجة و الترفيه ” . إنهم ينطقون ” سكولا ” ربما كذكرى لغوية قديمة تسبق نشأة المدرسة التونسية في بداية دولة الإستقلال , و ربما لأنهم كانوا سباقين لمزاولة التعلم في المدارس العصرية التي أنشأها المستعمر الفرنسي . و أنني أفهم هذه الريادة لأن أغلب معلمينا و معلماتنا كانوا يتوافدون علينا في الشمال الغربي من المدن السّاحلية . و حين أذكر أمام طلبتي في معهد العالي للفنون الجميلة بسوسة بأنني مدين للمعلمين ” السّواحلية ” الذين تدرسونني في الابتدائي تنفتح عيونهم ببريق الدّهشة و التعجب فأذكرهم بجهاد بورقيبة الأكبر في إنشاء المدارس و تعميمها , و أضيف : ” لقد فعل بورقيبة ذلك و هو يعرف أنني سأدرسكم اليوم في سوسة ردا لجميل آبائكم و أجدادكم ” , فيبتسمون إبتسامة حلوة بطعم حلاوة السكولا … و أسمع في آخر القسم من يردد ” يا حباني يح …” أجل بورقيبة الذي أنشأ مدرسة لإكرام الأحياء .
(*) – يمكن العودة في هذا الصدد إلى موسوعة جواد علي ” المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ” و كذلك إلى الأطروحة المتميزة لـ محمد عبد السلام ” موضوع الموت في الشعر العربي من بداياته إلى نهاية القرن الثالث الهجري ” ( بالفرنسية ) , منشورات الجامعة التونسية , تونس 1977.
(*) – أنظر مقالنا ” سرقة الموت و طقوسها في كتاب ” بازارات ” , دار برسبكتيف للنشر , تونس 2015.
(*) – جون بودريار Jean Baudrillard , المبادلة الرمزية و الموت L’échange symbolique et la mort , غاليمار Gallimard باريس 1976 .
** ناقد مسرحي وإعلامي من تونس