سامر محمد إسماعيل
كانت للتوّ قد رجعت من السباحة؛ هوايتها الصيفية التي ما زالت تواظب عليها السيدة السبعينية؛ محافظةً من خلالها على حيوية واضحة، تزيدها السجائر المتواصلة جاذبية وحضوراً، إلا أن صمتها وشرودها، في مكتبة بيتها المزدحم بأوسمة الشرف والجوائز، يعيدانها مجدداً إلى صور الشخصيات التي لعبتها في السينما والمسرح والتلفزيون؛ هي المرأة التي تقول إنها تكيّفت مع تقدمها في العمر؛ وما زالت حتى الآن تحلم بأداء شخصية الزعيمة الهندية الراحلة «أنديرا غاندي» في فيلم سينمائي.
بالقرب من بيت أهلها في شارع العابد الدمشقي الذي صار اليوم (سوبر ماركت) تتذكر «منى واصف جلميران» تلك الفتاة التي ولدت في دمشق عام 1942؛ لأبٍ كردي (مصطفى واصف) وأم عربية (هيلين عبود الأزرق): «اختصاصي سوريّة، فأنا كردية ومسلمة ومسيحية وعربية في آنٍ معاً، لم أشعر يوماً أن انتمائي له هوية دينية أو عرقية؛ لكنني لطالما زهوتُ بمعنى كنيتي الأصلية (جلميران). ابنة الأربعين أميرا التي كانت دوماً تلك الصبية التي تحلم أن تصير فراشةً لتطير».
معنى كنيتها بالكردية، كان لها نصيب منه في عملها كممثلة سوف يبزغ نجمها منذ ستينيات القرن الفائت؛ فبعد عملها كعارضة أزياء بعد انفصال أبيها عن أُمِّها؛ انتسبت (واصف) إلى صفوف (فرقة زنوبيا للفنون الشعبية) عام 1958؛ لتعمل بعدها كممثلة في المسرح العسكري؛ المكان الذي ستتعرف فيه إلى زوجها محمد شاهين؛ حيث كان السينمائي الراحل مخرجاً لعرض «العطر الأخضر» المسرحية الأولى التي ستقف فيها الممثلة السمراء على الخشبة: «منذ ذلك الوقت عكفتُ بحماس على قراءة الأدب الروسي والإنكليزي والعربي، فقد كان حلمي وحتى الآن أن أصير كاتبة، إذ لطالما حرصتُ على الدوام أن أبدو للجميع في صورة المرأة المثقفة والجميلة في آن معاً؛ لكنه ومع اشتغالي في المسرح، اكتفيتُ بأن أكون ممثلة تنقل أحاسيس وأفكار الكتّاب الذين أقوم بأداء شخصيات أعمالهم».
في زمن الوحدة بين سوريا ومصر كانت «منى» من بين عشرات النساء اللواتي خرجن أخيراً من سطوة الحرملك، لتصبح من الرائدات في اقتحام عالم التمثيل الذي كان محرّماً على النساء السوريات: «في وقتها لم يكن لدينا نساء يمثّلن لا في المسرح ولا في السينما، وكان المخرجون يستعينون بممثلات من لبنان؛ لكن افتتاح التلفزيون العربي السوري عام 1960 أفسح المجال واسعاً لتشارك المرأة السورية ولأول مرة في فن التمثيل. كان زوجي محمد شاهين وقتها من ضباط الانفصال فاستلم التلفزيون كمدير عسكري له عام 1963؛ وكونه لا يحق للضباط السوريين أن يتزوجوا بفنانة أو أجنبية كما ينص القانون، أقمتُ في البيت مدة سنة كاملة؛ ومع انتقال زوجي إلى ملاكٍ مدني عدتُ مجدداً للعمل في الفن».
الممثلة
تابَعَت بعدها صاحبةُ الصرخة الشهيرة في مسلسل «أسعد الورّاق» مشوارها كممثلة مع (فرقة الفنون الدرامية) بإدارة المخرج الراحل رفيق الصبان؛ حيث أسند لها هذا الأخير دور (الدوقة بوشيا) في مسرحية (تاجر البندقية) لشكسبير؛ الدور الذي أعطى (واصف) مساحة لما تريد أن تعكسه من سمو ونبل وكبرياء المرأة: «على مسرح الحمراء لا زلتُ حتى الآن أسمع تصفيق الجمهور؛ لا زلتُ أذكر كم كان ذلك مؤثّراً؛ وكم دفعني إلى القراءة والتهام الكتب فالمسرح أنسنني؛ جعلني أقرب إلى الناس؛ والجمهور العربي عرفني من خلال مشاركاتي العديدة في مهرجانات المسرح ولقاءات مبدعيه».
«الأعماق ـ والخجول في القصر ـ الأم الشجاعة ـ بيت الدمية ـ من يخاف فرجينيا وولف» أعمال كانت ( واصف) بطلتها المطلقة على خشبة المسرح القومي بدمشق؛ مثلما كان هو الحال مع التلفزيون الذي استثمر قدرة هذه الممثلة على الشاشة الصغيرة، لتقدّم عبره العديد من الأدوار والشخصيات التاريخية التي كان أبرزها: ( الخنساء ـ سُعدى بنت الزناتي خليفة ـ منيرة ـ أسعد الورّاق ـ دليلة والزيبق).
دور «الملكة الجليلة» في مسرحية «الزير سالم»هو الشخصية التي سترشّحها عام 1974 لأداء شخصية (هند بنت عتبة) في فيلم (الرسالة) لـ(مصطفى العقاد): «عبد الله غيث كان قد شاهدني وأنا أمثّل دور (الجليلة) فرشحني للعقاد للعب دور (هند)؛ وقتذاك كنتُ أظن أنها مزحة؛ تخيل مخرجاً جاء من هوليوود؛ ليقول لي أنت بطلة فيلمي؛ لم أصدّق حتى وقفت أمام الكاميرا؛ وفعلاً كانت فرصتي الذهبية».
اختار «العقاد» ممثلته التي انتزعت الترشيحات من كل من اللبنانية (نضال الأشقر) والمصرية (ماجدة الخطيب) فقدّمت بأدائها لهذه الشخصية مستوى فاجأ الجميع؛ لتكون (هند) منعطفاً رئيساً في سيرة الممثلة السورية التي أدت عشرات الأدوار للسينما والمسرح والتلفزيون؛ إلا أن (هند) بقيت حتى اليوم صورة من صور الانتقام والثأر في التاريخ العربي.
أداء (واصف) آنذاك قالت عنه الصحافة بأنه تجاوز أداء الممثلة اليونانية (إيرين باباس) للدور نفسه في النسخة الأجنبية من الفيلم: «البعض ردَّ ذلك إلى أنني امرأة عربية؛ لكن هذا ليس صحيحاً؛ (باباس) قدّمت أيضاً أداءً مهماً ولافتاً وهي ممثلة باهرة، وإذا كان هناك من تمايز أو تفوق يحسب لي بأداء دور (هند) فهو يرجع برأيي لكوني ممثلة مسرح مغرمة بلغتها الأم وشغوفة بها».
من أين آتي بقاسيون آخر
لا تخفي (واصف) إعجابها بشخصية (هند بنت عتبة) التي كانت من طبقة الأشراف في قريش؛ وكيف تعاملت معها لفهمها كشخصية درامية: «لا أحكم على الشخصية التي ألعبها؛ ولم آخذ يوماً موقفاً من أي شخصيةٍ قمتُ بأدائها؛ المهم هنا أن يفهم الممثل شخصيته، وأن يبرر لها، لا أن يحاكمها، ( هند) قتلوا أباها وأخاها وعمها وكان لها الحق في أن تثأر لهم؛ هذه ثقافة جاهلية كانت سائدة وقتها، فليست (هند) وحدها من أكل من كبد (حمزة)، جميع نساء قريش أكلن أكباداً، ولو كنتُ في مكانها لفعلتُ أكثر منها».
«مشهد أكل الأكباد يتكرر اليوم وللأسف في الحرب السورية» تعقّب سيدة الشاشة؛ وتضيف محدّثةً عن الصور المعلّقة على جدران صالة بيتها حين نسألها ونغير الحديث: « هذه صورتي في فيلم (الشمس في يوم غائم) وهذه من فيلم (بقايا صور) وهذه من فيلم (اليازرلي) وجميعها مأخوذة عن روايات حنا مينه الذي أعشق أدبه وفخورة أنني لعبت شخصياتٍ من كتابته».
الأم
وقفت (واصف) أمام كاميرا العديد من مخرجي السينما في بلادها من مثل (نبيل المالح، غسان شميط، محمد شاهين، قيس الزبيدي) لكنها اليوم تواصل بنجاح تقديم شخصية (الأم) التي برزت بها في سن مبكرة: «الأم وهي ميتة يظل منها شيء حي تحت التراب؛ لا أعرف ما هو، لكنني على يقين من ذلك».
لم تغادر (واصف) بيتها في دمشق إلا لاستكمال التصوير في بيروت وسواها من العواصم العربية: «من أين آتي بقاسيون آخر؟ لا يوجد في العالم ما يغنيني عن الشام، هذا الوطن عشنا وتربينا فيه، قذائف أو صواريخ، لا مياه لا كهرباء؛ لا تعنيني، ما يعنيني أنني سأبقى هنا؛ في دمشق؛ ثم أين سآخذ مكتبتي وصوري وذكرياتي وأهلي والناس الذين أحبهم؟ بيتي الصغير هو وطني الكبير».
تودّعنا السيدة الدمشقية بابتسامة ود إلى باب البيت؛ لكنها تشير لنا بيدها إلى باب الشقة المجاورة تماماً لمنزلها: «هذا بيت صباح فخري؛ لكنه الآن في سفرٍ للعلاج إلى ألمانيا؛ اشتقنا يا صديقي».
السفير