دروس العقلانية الرشدية، أو ماذا بقي منها؟


*مصطفى بن تمسك


رغم انتماء ابن رشد للمعقولية القروسطية، إلا أنّه أصبح ظاهرة “تنتمي كليّة للتاريخ” (أركون)، والدليل تعدد جنسيات الرجل وعالميته وتأثيره في الحضارة العربية الإسلامية والمسيحية واليهودية وإنشداده للإغريق.

إنّ حاجتنا لابن رشد هي من جنس حاجتنا إلى منهج يفصل اللوغوس عن الميتوس/المعقول عن اللامعقول/المقدّس عن الدنيوي؛ هذا الفصل الذي يعني غيابه هيمنة خطاب العنف والإقصاء والتخلف.
ما يهمنا من الظاهرة الرشدية اليوم ليس اسم الرجل ولا شهرته الكونية، وليس أيضاً البحث عن مشروعية عقلانية تراثية. إنّ ابن رشد ليس تراثاً نزوره في المناسبات لننفض عنه غبار النسيان، بل هو رمز للمكبوت العقلاني في ماضينا، وحديثنا عنه وصال وتواصل وإيصال لنداء ما يزال حجة على تخلفنا المستحكم.
فلنعترف أننا بذكراه لا نحيي ذكرى، بل نعترف بذنب امتثالنا للسلف التقليدي في تاريخنا، ومصادرتنا لكل نَفَس عقلاني ولكل من يتقن الأبجدية الإغريقية. أليس محور نزاعه هو محور نزاعنا؟
فقط ما يتغير باستمرار هي المدلولات وليس الدوال. إنه يحيا بيننا داخل حداثة لا تريد أن تحدُث، طالما ينثني هذا التراث الجبار على ذاته رافضاً الانفتاح على منطق التاريخ. هنا بالذات تبدأ بوابة الحداثة العربية المعطلة. وبالإمكان أن نصوغها بشكل مغاير لسؤال رواد النهضة، فلا نردد معهم: “لماذا تقدّم الغرب وتخلف المسلمون؟” بل الأحرى والأكثر راهنية هو: كيف نعيد فتح مغاليق التراث بمناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة، لنسائله ونؤنسن مقدساته دون انفعال أو تعصب؟
إنّ ما بقي حقاً من العقلانية الرشدية، يمكن اختصاره في الدروس الخمسة التالية:
– الدرس العقلاني الأول: في تعقل النظر السياسي
إنّ حاجتنا إلى ابن رشد اليوم هي من جنس حاجتنا إلى رسم مناهج بحثية ومنهجية قادرة على تفكيك معضلاتنا التراثية وفرزها، والدفع بالقضايا العالقة منذ قرون نحو الحل النهائي. انظر على سبيل المثال كيف يتدرج ابن رشد منهجياً من تعريف العلم السياسي إلى تعريف الشأن السياسي، ومن ثمة إلى تخير أداة النقد السياسي لسياسات عصره على ضوء مبادئ التعريف ومقدماته. “نقول إنّ هذا العلم المعروف بالعلم العملي هو مختلف بالأصل عن العلوم النظرية. (…) يتضمن موضوع هذا العلم الأشياء الإرادية التي مبدأ وجودها منا، ومبدؤها هو الإرادة والاختيار، مثلما هو العلم الطبيعي الذي مبدؤه الأشياء الطبيعية، ومبدأ ما بعد الطبيعة هو الله، وموضوعها الأشياء الإلهية”[1]. ماذا يعني تحديداً أنّ العلم السياسي موضوعه الإرادة الحرة؟ وهل في حوزتنا السياسية (النظرية) مثل هذا التعريف للسياسة بوصفها فعل الاختيار لا الإجبار؟
لكأني بابن رشد يتحدث إلينا بلغة معاصرينا، فيقول لنا إنّ العلم السياسي هو موضوع الاتفاق والوفاق بين المتعاقدين لإدارة الفضاء العام. فمثلما أنّ الطبيعة محكومة بقوانينها الذاتية، والميتافيزيقا بموضوع الألوهية، فالسياسة موضوعها الإرادة والاختيار. ويبدو أنّ ابن رشد قد سبق ابن خلدون في القول إنّ الفضاء العمومي أو العمران البشري يخضع لقوانينه الذاتية، فليس هناك قوانين فوق-اجتماعية أو متعالية يمكنها أن تتحكم في الشأن السياسي.
يتميز الفضاء السياسي بالإرادية والاختيار والوفاق، أي بالعقد الذي يضعه المتعاقدون لإدارة حياتهم باستقلال عن التدخلات أو حتى التبريرات الخارجية. في المجال السياسي تتجسد “الفضائل العادلة التي هي فضائل بين الإنسان وبين غيره، أعني بينه وبين المشارك له في أي شيء كانت الشركة لا بينه وبين نفسه”[2].
الشأن السياسي شأن وضعي وتواضعي بامتياز. إنّه علاقات الشراكة والمشاركة والتواصل الجماعي التي تجعل الاجتماع البشري في مستوى تدبير المدن أمراً ممكناً. يدرج ابن رشد قيمة الشراكة السياسية وقيم المواطنة عموماً ضمن دائرة العدالة والفضيلة أي الأخلاق والسياسة. تقتضي العدالة والفضيلة قدرة ورغبة في الاندماج في الآخر والنأي عن السلوك الانعزالي التوحدي كما اختاره ابن باجة وابن طفيل. وهنا نقف مرّة أخرى على واقعية المقاربة السياسية الرشدية ومعقوليتها.
يترتب عن استقلالية الشأن السياسي عن الميتافيزيقا بالخصوص أنّ الحكام والمحكومين مدعوون إلى عدم خلط السجلين بمعنى توظيف المقدّس لإفراغ الاتفاقات الوضعية من طابعها الدنيوي، وبالتالي تبرير اغتصاب السلطة وتوريثها باسم الحق الإلهي والخلافتي.
بيد أنّ انفصال الخطاب السياسي عن الخطاب الميتافيزيقي لا يعني أنّ السياسة أضحت تقنية سياسية خالية من كل غائية كما هو الشأن لدى هوبز أو ميكيافلي أو في المقاربات الليبرالية الجديدة.
لا تكتمل دلالات العلم السياسي لدى فيلسوف قرطبة إلا متى اقترنت بالأخلاق، أي بالفضيلة التي تنحو إليها، ونعني بها تحقيق السعادة المنشودة من وراء الاجتماع البشري. لهذا يتعذر فهم كتاب السياسة لأرسطو دون إردافه بكتاب الأخلاق النقوماخية، ذلك أنّ أساس علم السياسة هو الأخلاق، وأساس هذه الأخيرة هو علم النفس، وهو جزء من العلم الطبيعي، لأنّ النفس لا تفعل ولا تنفعل إلا بالجسم، مثال ذلك الفرح والحزن والغضب وغيرها من الأحوال النفسية المرتبطة بالجسم[3].
إنّ الغائية الأخلاقية من تدبير أهل المدينة هي الارتقاء بنفوس أهلها ومشاعرهم إلى مرتبة الكمال، الذي يعني التضامن العضوي بينهم وإحلال الفضائل في مجالات التعايش بينهم بدلاً من التناحر. وإذا كان علم الأخلاق بهذا النحو هو علم تدبير نفس الفرد، فإنّ السياسة هي تدبير نفوس الجماعة.
وإذن فـ”النموذج العلمي” الذي يجب أن يُقرأ موضوع “علم السياسة”، أي “المدينة”، على ضوئه وبواسطته هو “النفس”، نفس الإنسان، كما يفهمها علم النفس الأفلاطوني-الأرسطي. وهكذا فكما أنّ النفس هي جماع ثلاث قوى هي: القوة الناطقة العاقلة وفضيلتها المعرفة والحكمة، والقوة الغضبية وفضيلتها الشجاعة، والقوة الشهوانية وفضيلتها العفة، فكذلك المدينة: تكون حكيمة في مذهبها الفكري الذي به تسود جميعَ أجزائها، على النحو الذي يكون به الإنسان حكيماً بالعقل “الذي يسود به على جميع قواه النفسانية، وذلك بأن يتحرك الإنسان إلى الأشياء التي ينبغي أن يتحرك إليها، بالمقدار الذي يقدره العقل وفي الوقت الذي يعينه. فالإنسان يكون شجاعاً بالجزء الغضبي (من النفس)، في المكان والزمان وبالمقدار الذي توجبه الحكمة. فهو إنما يكون شجاعاً بالجزء الغضبي (من النفس) إذا استعمله فيما يوجبه العقل، وفي الوقت الذي يجب والمقدار الذي يجب. وكذلك الشأن في (فضيلة) العفة وفي سائر الفضائل. وبالجملة يكون (الإنسان) فاضلاً بجميع الفضائل العقلية والخلقية، وتكون الرياسة فيه كرياسة هذه الفضائل بعضها على بعض”[4].
– الدرس العقلاني الثاني: في ضرورة اقتران السياسة بالأخلاق والفضائل
يرفض ابن رشد أن يكون التعاقد على خلفية إطلاق الحريات الفردية وحيادية الدولة عن المجتمع. ويعتبر- على إثر أفلاطون وأرسطو- أنّ الغاية من الاجتماع البشري هي السعادة الجماعية، ولكونها شأناً أخلاقياً وليس سياسياً، فهي لا تتحقق إلا بالفضائل. كتب يقول: “إنّ الناس لا يتمّ وجودهم إلا بالاجتماع، والاجتماع لا يمكن إلا بالفضيلة، فأخذهم بالفضائل أمر ضروري لجمعهم”[5].
إنّ غاية الاجتماع المدني والسياسي هي أخلاقية وتربوية قبل أن تكون سياسية، بل إنّ الفرد لا يتأهل سياسياً لأن يكون مواطناً كامل الحقوق والواجبات، حتى يتأهل تربوياً وأخلاقياً.
ولا شك أنّ تنمية الفضائل في نفوس الأفراد هو الكفيل بنزع فتيل الكراهية والحرب بين الناس، وليس مجرد الاجتماع طلباً للحماية الأمنية.
التربية هي أساس الحكم الرشيد وقاعدة استمراره في الزمن، لذلك يحذو ابن رشد حذو أفلاطون في جلّ ما قرره حول موضوعات تربية الناشئة. وهنا تبرز العلاقة الوثيقة بين التربية والسياسة: فلكي نعد مجتمعاً فاضلاً، يتعين إعادة تأهيله أخلاقياً وتربيته على الفضائل التالية:
– تحصين الأطفال ضد الأوهام، وذلك من خلال تعويد آذانهم ومتخيلاتهم الصغيرة على استساغة الحكايات المجدية حتى ولو كانت خيالية، ولكن دون أن تكون وهمية تبعث في نفوسهم البريئة الرعب والخوف (على غرار حكايات الأشباح والجن). يجب على القصص النافع أن ينمي في نفوس الناشئة قيم الفضيلة والتعاون والمحبة بدل العنف والخوف والقشعريرة في أجسامهم. “قال أفلاطون إنّ الشيء الأكثر ضرراً على الصغار هو أن يسمعوا في صغرهم الحكايات الوهمية، لأنهم في هذا العمر من حياتهم سوف ينقادون بيسر لقبول تلك الحكايات التي يرغبون في سماعها. (..) يجب أن نحصّنهم ضد هذه الحكايات، ونكون حذرين من أن نسبب الأذى في أجسامهم من الخوف والقشعريرة”[6].
– إزالة جميع الأقاويل والحكايات التي تحث على طلب المال واللذة.
يدرك ابن رشد تمام الإدراك أنّ سبب فساد المجتمعات والسياسات، يكمن في القاعدة التربوية الأولى. فالمجتمع يتحمل وزر هذا الفساد السياسي، لأنه يشجع على تنمية نزعات التملك والسيطرة والقوة من خلال ما يسمح بتداوله من حكايات سواء من التراث أو من الواقع الجاري تدفع بشكل مباشر إلى محاكاة شخوص وهمية تحولت فجأة إلى أبطال غير عاديين امتلكوا أسباب السلطان وقطعوا الرقاب بكل فتوة وكبرياء. هنا يحمّل ابن رشد فساد الأخلاقيات الجماعية للثقافة الأسطورية السائدة التي لا تفتأ في تهميش دعاة الفضائل الأخلاقية والمعرفية والفنية، في مقابل المبالغة في إطراء حكايات المجد الأسطورية. لذلك بات “من الواجب، بل من الضروري، إزالة جميع الأقاويل والحكايات التي تحث على طلب المال واللذة، والتي يكثر ذكرها في أشعار العرب. بل يجب أن يستمعوا للحكايات التي تنصحهم بعدم الاهتمام بالملذات والانغماس فيها، لأنّ العفة للنفس، كما حكى أفلاطون، إنما تقوم مع الاعتدال والابتعاد عن الشهوات الحسية”[7].
ويشير ابن رشد بصراحة نادرة إلى موضع من مواضع هذا الفساد الثقافي المتداول في مدارسنا ومنطوقنا اليومي ألا وهو الشعر العربي القديم، فقد حفل بقصائد الهجاء والمدح والخمرة والنساء. ورغم تأثيراتها على القيم الأخلاقية وتعارضها في بعض الأحيان مع المقتضيات الدينية (مدح الخمرة مثلاً في شعر أبي نواس)، إلا أنّ الثقافة الشعبية لا تجد حرجاً في تداولها واستهلاكها. ولذلك فعندما يتعلق الأمر بمشروع بناء المدينة الفاضلة وجب التنبيه إلى “أنّ في شعر العرب قصائد مليئة بمثل هذه الشرور”[8]. وبالتالي: “يجب حذف الأشعار والقصائد التي تحذو حذو عادات العرب في وصف هذه الأشياء ومحاكاة الأشياء المشابهة لها”[9].
– وأخيراً واستكمالاً لمبادئ التربية الفاضلة يتعين تقوية ملكتين في النفس: الروح والجسد. فالروح تتغذى بالموسيقى الجيدة التي تبعث فيها السكينة الداخلية، أمّا الجسد فيتغذى بالرياضة التي تجعله صلباً مقاوماً وفتياً[10].
– الدرس العقلاني الثالث: في طرائق تشريع القوانين وإنفاذها
القوانين أو الدساتير هي الشريان الحيوي لاستمرارية الاجتماع البشري. ويعرّفها أرسطو كما يلي: “الدستور هو الذي يعين في الدولة النظام المرتب لجميع الوظائف، لكن على الخصوص الوظيفة التي لها السيادة، وسيادة الدولة إنما هي في كل مكان للحكومة، والحكومة هي الدستور نفسه (…)، مثلاً في الديمقراطيات السيادة للأمّة، وفي الأوليغارشيات على ضد ذلك إنما هي لأقلية مؤلفة من الأغنياء. ومن أجل ذلك يقال إنّ دساتير الديمقراطية والأوليغارشية مختلفة في أصولها”[11].
في غياب الدساتير المنظمة للحياة المدنية يعود الإنسان إلى الحالة الطبيعية كما تحدث عنها فلاسفة العقد الاجتماعي. وهي حالة اتسمت حسب توصيف هوبس: “بحرب الكل ضد الكل”، وبالقتال الهمجي الذي كان ينذر بفناء الجنس البشري. تمثل الحالة المدنية وضعية التعاقد التي أنجزها البشر بحرية ومساواة من أجل وضع حد لحالة الفوضى الطبيعية وإرساء عقد سياسي وقانوني يحفظ لهم حياتهم وحقوقهم الطبيعية، لكن في إطار قانوني متفق عليه بين الحاكم والمواطن.
يحرص ابن رشد على استتباب الحالة القانونية (وهنا تظهر بوضوح شخصيته القانونية بوصفه شغل منصب قاضي القضاة في قرطبة)، لأنّ غيابها يعني هلاك المجتمع والسلطة. ومهما كانت السلطة جائرة فإنها لا يمكن أن تحكم إلا بقوانين حتى ولو كانت جائرة. فمدن الشرف أو الخسة أو وحدانية التسلط أو الجماعية كانت تُحركها منظومة قانونية ما، بحيث لم يخلُ نظام سياسي من قوانين مهما كانت طبيعتها. “إنّ المدن إنما يسلم وجودها بالسنن، ولذلك ينبغي لواضع السُنن أن يعرف كم أصناف السياسات وأي سُنّة تنفع وأي ناس تصلح بهم سُنة سُنة وسياسة سياسة، وأي أناس لا تصلح بهم، وأن يكون يعرف الأشياء التي يخاف أن يدخل فيها الفساد على المدينة، وذلك إمّا من الأضداد من الخارج أو من أهل المدينة. فإنّ سائر المدن ما عدا المدينة الفاضلة قد تفسد من قبل السُنن الموضوعة فيها، وذلك إذا كانت السُنة مفرطة الضعف واللين أو مفرطة الشدة، وسواء كانت في رأي أو في فعل أو في خلق. وذلك أنّ السياسة التي تسمى الحرية قد يظهر من أمرها أنها تنتقل كثيراً من قبل هذا المعنى إلى رياسة الخسة أعني رياسة الشهوات أو رياسة المال. والذي قاله (أرسطو) ظاهر عندنا من أمر السياسات التي وصلتنا أخبارهم”[12].
– الدرس العقلاني الرابع: في ضرورة المساواة بين المرأة والرجل
لعلنا لا نبالغ حين نعتبر أنّ الإرهاصات الأولى والمبكرة للحداثة العربية-الإسلامية، بشّر بها ابن رشد من خلال مواقفه الجريئة ممّا سيعرف في القرن العشرين بقضية المرأة. لقد أدرك فيلسوف قرطبة بالمعاينة الاختبارية والتحليل البرهاني أنّ التحرر الشامل للمجتمعات العربية الإسلامية رهين تحرر نصفه المشلول، أي المرأة. وهو في هذا الموقف السابق لعصره ومصره لا يتبع خطوات أفلاطون ولا أرسطو، لأنّ المعلّمين لم يناصرا قط قضية المرأة، بل اعتبراها جزءاً من المنظومة العبودية السائدة في عصرهما. فهي كائن منزلي كالعبد تماماً، وليست مواطناً منخرطاً في الفضاء السياسي الذي يظل حكراً على السادة من الرجال. وهي في “الجمهورية” متاع جنسي مشاع للعموم على غرار الأطفال والعبيد[13]. بينما هي لدى ابن رشد مكفولة الحقوق ومساوية للرجل، بشكل قد يؤدي إلى التعارض مع منزلتها في الإسلام وثانويتها، بل وتبعيتها للسلطة الذكورية.
ولا شك أنّ ابن رشد كان مدركاً لمخاطر مشروع تحرير المرأة هذا، لا سيما في صلب مجتمعات لم تتهيأ بعدُ لهذه الخطوة الحداثية الحاسمة، إلا أنه كان فيما يبدو بصدد اختبار ردود أفعال معاصريه، وفي الوقت نفسه أراد أن يكون فاتحاً لمجال مغلق (تابو)، كالسياسة تماماً حين تكون نقدية وعقلانية، أي خارج ركاب السلطان.
لهذا فليس من باب المصادفة أن تقترن قضية المرأة عنده بأصناف المدن والسياسات. فالعدل في المدينة المنشودة ليس سياسياً وحسب، بل هو اجتماعي وثقافي وأخلاقي أيضاً. وهو يفترض رفع كل أنواع الاستعباد من المجتمع الفاضل بما في ذلك استعباد الرجل للمرأة. وبالنتيجة إعادة النظر في الهيمنة الذكورية وفي تركيبة المجتمعات الأبوية حيث تكون المرأة مجرد موضع للمتعة والحضانة.
يرفض ابن رشد هذه المنزلة الدونية، ويعتبر أنّ المرأة ليست مساوية فقط للرجل، بل قد تتفوق عليه في أنشطة أخرى. فالمرأة تصلح للحكم وإدارة شؤون الدولة والحرب[14]. يقول ابن رشد: النساء “متساويات مع الرجال بالنوع ومختلفات معهم بالدرجة فقط. وإنّ هذا يعني أنّ الرجل هو في معظم أفعاله أكفأ من المرأة، وإن كان من غير المستحيل أن تؤدي المرأة بعض الأعمال بكفاءة أعلى، كما هي الحال مع فن الموسيقى العملي، ولهذا يقال إنّ الألحان تكون تامة إذا ما وضعها الرجال وأدتها النساء. إذن فإنّ طباع النساء والرجال التي تبدو من نوع واحد وطبيعة واحدة بالنوع تقود المدينة إلى الفعل الواحد عينه. ومن هنا يتضح أنّ النساء في هذه المدينة سوف يمارسن أعمال الرجال عينها، سوى تلك التي لا يقدرن عليها. ولهذا السبب، فمن الواجب أن نسمي هذا النوع من الفعل أفضل الأنواع (…)، ونحن نعتقد أنّ النساء يتشاركن والرجال في المهن، سوى أنهن أضعف في ذلك، وإن كن في بعض الفنون أكثر كفاءة من الرجال مثل فن النسيج والحياكة وغير ذلك. أمّا مشاركتهن في فن الحرب وما شابه ذلك، فإنّ هذا واضح عند أهل البراري والثغور. وبصورة مشابهة، طالما أنّ بعض النساء ينشأن وهنّ على جانب كبير من الفطنة والعقل فإنه من غير المحال أن نجد بينهن حكيمات وحاكمات وما شابه ذلك، وإن كان هناك من يعتقد أنّ هذا النوع من النساء نادر الحصول، لا سيما وأنّ بعض الشرائع ترفض أن تقر للنساء بالإمامة، أي الإمامة العظمى، بينما نجد شرائع أخرى على خلاف ذلك، ما دام وجود مثل هؤلاء النسوة بينهم أمراً ليس بالمحال”[15].
يقرن ابن رشد أسباب تخلف المجتمعات العربية بتعطيل قدرات المرأة وتمثلها ككائن منزلي. في حين يحتاج المجتمع إلى كفاءاتها الاجتماعية والتقنية والإدارية. والنتيجة هي أنّ نصف طاقة المجتمع مشلولة بالكامل. وهذا ما يفسر تخلف المجتمع اقتصادياً وثقافياً. “يلاحظ ابن رشد بمنتهى سداد الرأي أنّ الكثير من فقر عصره وبؤسه يرجع إلى أنّ الرجل يمسك المرأة لنفسه، كأنها نبات أو حيوان أليف …”[16].
وهكذا تبدو دعوة ابن رشد إلى مساواة الجنسين في الوظائف الاجتماعية والسياسية متجاوزة ليس للحظتها التاريخية فقط، بل لما قررته الشريعة الإسلامية أيضاً في هذا الشأن بخصوص تفوق الرجل على المرأة عقلياً واقتصادياً وسياسياً.
– الدرس العقلاني الخامس: في ضرورة الفصل بين الدين والسياسة
إنّ راهنية ابن رشد هي بعينها راهنية القضايا التي أثارها وقد طغت عليها إحراجات الفصل والوصل بين الحكمة البشرية والوحي الإلهي.
يجب تعيين حدود الإدراك وفصل المقامات عن بعضها بعضاً وعدم خلط السجلات، لأنّ في ذلك تجنياً على حرمة المعارف ونسبية الأفهام. كتب ابن رشد: “الناس على أصناف ثلاثة: صنف ليس هو من أهل التأويل أصلاً، وهم الخطابيون الذين هم الجمهور الغالب(..)، وصنف هو من أهل التأويل الجدلي(..)، وصنف هو من أهل التأويل اليقيني. وهؤلاء هم البرهانيون بالطبع والصناعة. وهذا التأويل لا ينبغي أن يصرح به لأهل الجدل فضلاً عن الجمهور، ومتى صرح بشيء من هذه التأويلات البرهانية لبعدها عن المعارف المشتركة أفضى ذلك بالمصرح له والمصرح إلى الكفر”[17].
وفي اعتقاد ليون غوتيه فقد أراد ابن رشد في تقسيمه لمستويات الإدراك إلى ثلاث درجات تقابلها ثلاث طبقات اجتماعية: العامّة ورجال الدين والفلاسفة، أن يؤكد الحقيقة البسيطة التالية: “يجب أن يكون هناك دين خاص بالشعب”[18]، لأنّ ابن رشد كان ينظر إلى الدين نظرة أخلاقية وسياسية وذرائعية دون أن ينزع عنه قداسته “فهو يعظم الدين لما يرمي إليه من غايات خلقية وهو في نظره أحكام شرعية (عملية) لا مذاهب نظرية، ولذلك لا يفتر عن محاربة المتكلمين الذين يريدون أن ينظروا إلى الدين نظراً عقلياً بدلاً من أن يمتثلوا لأوامره طائعين. وهو ينحى باللائمة على الغزالي لأنّه مكّن الفلاسفة من التأثير في مذهبه الديني ففتح للكثيرين باب الشك والكفر”[19].
مقاصد الفصل هي عدم إقحام الخطاب الديني والعقدي في لعبة الممكنات السياسية، لأنّ المراهنة على الدين في حلبة السياسة المتقلبة قد يؤدي إلى اختلاط المرجعيات، وإلى التعاطي مع النص الديني أو المقدّس بشكل أداتي تمرر من خلاله أجندات السياسات الجائرة.
يتعلق الأمر بإعادة رسم الحدود المعرفية والمجالية بين خطابين بإمكانهما أن يتقاطعا[20] في مستوى الغائيات القصوى للوجود الإنساني. فالسياسة مثل الدين، كلاهما يراهن على الإنسان ويسعى إلى تحقيق السعادة والخير المشترك. يلتقي الاثنان في الغايات القصوى، ويختلفان في الطرق الموصلة إليهما. ومن أجل بقاء هذه المقاصد حاضرة باستمرار في سلوكياتنا واختياراتنا الحياتية، يتعين أن نقاوم المتطرفين القادمين من هنا وهناك، ولا نركن إلى دعاة القضاء على الدين من أجل تحرير السياسة، ولا إلى دعاة القضاء على السياسة البشرية من أجل إعلاء كلمة الدين وحده، ذلك أنّ الكون أرحب من أن يقتسمه السياسي والمتدين.
خاتمـة
ما تزال الهواجس الرشدية تسكننا رغم تغير العصور وتبدل الأحوال، وكأنّ كلّ هذا التاريخ الذي مرّ علينا ظلّ يراوح مكانه عندنا، حتى أننا لنندهش من تقدم الرجل على عصره، بل على عصرنا. وإنك حين تنظر في الأفكار التي عرضناها سواء بخصوص العقلنة السياسية أو القانونية أو التحررية (قضية المرأة)، فإنك تعجب أنّ أغلب المجتمعات العربية ما تزال بعيدة عن أفكاره التقدمية والتحررية، إذ هي ما تزال تستبطن النظرة الدونية والاستنقاصية للمرأة، فتمنعها ليس فقط من ممارسة حقوقها المدنية والسياسية، بل حتى الحقوق الفردية البدهية كالسفر بمفردها أو قيادة السيارة، بل ما يزال بعض الدعاة يفتون بختان الفتيات وإخصاء غرائزهن الطبيعية.
ثم أين نحن من أفكار ابن رشد بخصوص كيفية التنظيم السياسي القائم على حرية الاختيار والتعاقد الحر والوفاق بين المواطنين الأحرار؟ ولكأني بابن رشد الأندلسي قد استبق الحداثة السياسية بأفكاره تلك، أو قلْ كان بالفعل أحد الممهّدين للإصلاح الديني اللوثري، الذي انتهى إلى تحرير السياسة من الدين، ثم تحويل الدين إلى مجرد مسألة اعتقادية فردية متحررة من كل كهنوتية أو وساطة بابوية. ما لم ينجزه ابن رشد في السياق العربي-الإسلامي الوسيط أنجزه لوثر في السياق المسيحي الوسيط. وهكذا استحق الرجل أن يكون ظاهرة تاريخية وكونية، تستلهم منها الإنسانية حلول معضلاتها المعلقة.
مسرد المراجع والاحالات

ـ ابن رشـد، تلخيص السياسة لأفلاطون (محاورة الجمهورية)، نقله إلى العربية: د. حسن مجيد العبيدي وفاطمة كاظم الذهبي، دار الطليعة بيروت، ط1، 1998

– ابن رشد، أبو الوليد، تلخيص الخطابة (1967)، تحقيق وشرح محمد سليم سالم، القاهرة.

ـ ابن رشد، تلخيص كتاب النفس، 1950، تحقيق أحمد فؤاد الأهواني، الطبعة الأولى، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة.

-الجابري محمد عابد، “ابن رشد والتأسيس العلمي للسياسة”، استرجع في 15/06/2013

http:www.liberaldemocraticpartyofiraq.com/serendipity/index.php?/archives/2443-html

ـ أرسطو، السياسة، ترجمة أحمد لطفي السيد، ط2، مصر 1979

ـ دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام (د.ت)، ترجمة وتعليق محمد الهادي أبو ريدة.

[1] ابن رشـد تلخيص السياسة لأفلاطون (محاورة الجمهورية)، نقله إلى العربية: د. حسن مجيد العبيدي وفاطمة كاظم الذهبي، دار الطليعة بيروت، ط1، 1998، ص ص 64-65. انظر أيضاً التعريف ذاته في تلخيص الخطابة، ص 61 “وقد يخالف أيضاً بمقدار النظر هذه الصناعة (أي الخطابة) في الأمور الإرادية النظر الذي للعلم السياسي فيها، أعني أنها تنظر في الأمور الإرادية النظر الذي هو في سابق المعرفة للإنسان، وتدع تقصي النظر في ذلك للعلم السياسي”.

[2] ابن رشد، أبو الوليد، تلخيص الخطابة (1967)، تحقيق وشرح محمد سليم سالم، القاهرة، ص ص 19-20

[3] ابن رشد، تلخيص كتاب النفس، 1950، تحقيق أحمد فؤاد الأهواني، الطبعة الأولى، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ص 12

[4] الجابري، محمد عابد، “ابن رشد والتأسيس العلمي للسياسة”، أسترجع في 15 / 06 / 2013 من:

http://www.liberaldemocraticpartyofiraq.com/serendipity/index.php?/archives/2443-..html

[5] ابن رشد، تلخيص الخطابة، م.م، ص 8

[6] ابن رشـد، تلخيص السياسة لأفلاطون (محاورة الجمهورية)، مرجع مذكور، ص ص 84-85

[7] المرجع السابق، ص 89

[8] المرجع السابق، ص 89

[9] المرجع السابق، ص 92

[10] المرجع السابق، ص 96

[11] أرسطو، السياسة، ترجمة احمد لطفي السيد، ط2، مصر 1979، ص 195

[12] ابن رشد، تلخيص الخطابة، م.م، ص 68

[13] يعتقد روزنتال أنّ ابن رشد صمت عن نقد مشاعية النساء والأولاد كما وردا في الجمهورية الأفلاطونية. بل اعتبر أنّ هذه المشاعية “ضرورية” (ابن رشد، جوامع…، ص 165). الشيء الذي جعل رالف لرنرRalph lerner يستخلص أنه قد يكون تبنى شيوعية أفلاطون في الأموال والنساء والأطفال في سياق المدينة الفاضلة المنشودة. لكنّ عمار الطالبي يؤكد في رده على هذا الموقف أنّ هذه “الضرورة” ليست مطلقة وقائمة بذاتها وكأنها حقيقة يدعو ابن رشد إلى تطبيقها، بل هي ضرورة اقتضاها نسق التفكير الأفلاطوني ومذهبه (الطالبي، “النظرية السياسية لدى ابن رشد” مؤتمر الجزائر، ص ص 245-246). وهي لا تملك شرعيتها إلا داخل جمهورية أفلاطون الخيالية. أمّا في الواقع العملي والتاريخي فليس هناك شرعية مذهبية أو دستورية لهذه الاجتماعات البشرية البدائية والفوضوية.

[14] ابن رشد، جوامع سياسة أفلاطون، م. م، ص 165

[15] ابن رشـد، تلخيص السياسة لأفلاطون ( محاورة الجمهورية)، مرجع مذكور، ص ص 124-125

[16] دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام (د.ت)، ترجمة وتعليق محمد الهادي أبو ريدة، ص 403

[17] المرجع السابق، ص. 30-31 . يقول ابن رشد في تلخيص الخطابة: “إنه ليس كل صنف من أصناف الناس ينبغي أن يستعمل معهم البرهان في الأشياء النظرية التي يراد منهم اعتقادها، وذلك إمّا لأنّ الإنسان قد أنشئ على مشهورات تخالف الحق (..)، وإمّا لأنّ فطرته ليست معدّة لقبول البرهان أصلاً..، تلخيص الخطابة، م.م، ص 20

[18] أورده روزنتال في ترجمته لجوامع سياسة أفلاطون، ص 255

[19] دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، م.م، ص 404

_______
*مؤمنون بلا حدود 

شاهد أيضاً

العولمة بين الهيمنة والفشل

(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *