الركن الأكثر هدوءا في قلب لندن




توم هودجكنسون


في وسط مدينة لندن الصاخب، تقع مؤسسة خيرية عمرها بضعة قرون، وهي تختفي حتى عن أنظار أكثر السكان المحليين. الصحفي توم هودجكنسون قضى يوما كاملا داخل هذه المؤسسة كعضو من أعضائها، وقد تعلم هناك قاعدة واحدة يجب على جميع الأعضاء اتباعها.
قبل 400 عام، عاش رجل فاحش الثراء في ذلك المكان، وكان يدعي توماس ساتون. كان ساتون تاجر أسلحة ومرابياً. وبينما كان في ساعاته الأخيرة قبل الاحتضار، وصى بتحويل ذلك البيت المهيب في لندن إلى دار إيواء ومدرسة للفقراء. وكان ذلك البيت الذي تأسس في عام 1371 هو أحد الأديرة المسيحية السابقة.
وقرر ساتون إيواء 80 من الفقراء والمعوزين وإطعامهم في ذلك المكان. ولضمان تحقيق رؤيته هذه، ترك ثروة تعادل 200 مليون جنيه استرليني في يومنا هذا. وقد أصبح ذلك البيت يعرف باسم “مستشفى ساتون في تشارترهاوس”.
يحتل ذلك الموقع الجميل وأرضه مساحة تبلغ 6.5 فدان، وتشمل فناءً، وساحات، وكنيسة صغيرة، وديراً، وحدائق تعود إلى القرون الوسطى. يقع ذلك المكان خلف بوابة متواضعة على بعد بضعة أمتار فقط من “سوق سميثفيلد” في قلب حي “سيتي” من أحياء لندن.
كان أحد المقيمين المعروفين في هذا البيت هو المؤلف والمغامر سايمون رافين، الذي توفي عام 2001؛ أما الملكة “إليزابيث الأولى” فقد مكثت فيه لبضعة أيام عام 1558 وهي في طريقها إلى مراسم التتويج.
ومع أن ذلك العقار هو ملك خاص، فإنه مفتوح لعامة الناس وجولاتهم، حيث يمكن الحجز فيه عبر موقعه على الإنترنت. لكن حتى المقيمين لفترة طويلة في لندن قد لا يعلمون بوجود هذا المكان.
أغلقت المدرسة في عام 1872، غير أن دار إقامة الفقراء ظلت تمارس عملها. واليوم، يعيش بهدوء في “تشارترهاوس” 40 رجلاً يطلق عليهم لقب “الأخوة”.
وتشمل شروط تأهل الرجال للإقامة في هذه الدار ألا يقل عمره عن 60 عاماً، وأن يكون صاحب مهنة، وغير متزوج، وبصحة جيدة، وفي حاجة إلى المال، وإلى رفقة.
وللمعوزين الأولوية في تلك الدار؛ وفي حين أن تلك المؤسسة مسيحية، إلا أن الذهاب إلى كنيستها ليس إلزامياً. وعند التقدم للانضمام إلى تلك المجموعة، يوجه السؤال التالي إلى الرجال: “كيف ستتأقلم مع المعيشة الجماعية؟”
لقد أمضيتُ مؤخراً يوماً في “تشارترهاوس”، وكان الجو خليطا من الرهبنة والحياة الأكاديمية.
أما الشعور الطاغي الذي أحسست به من أخوة لا يكفّون عن المزاح، فهو الامتنان لعثورهم على مكان متجانس مثل هذا للتقاعد. وكما يعبر المدرس السابق دنكن إليسن، البالغ من العمر 71 عاماً، عن ذلك بقوله: “حلمت بعيشة مثل هذه، والأمر الاستثنائي هو أن الحلم قد تحقق بالفعل.”
يقول القسّ السابق في الكنيسة الأنجليكانية برووك كينغزميل-لون، والبالغ من العمر 83 عاما: “التركيبة المتبّعة هنا تولّد إيقاعاً خاصا بمجريات الأحداث اليومية. أحد أكثر المشاكل شيوعاً، والتي رأيتها ككاهن للرعية، هي الوحدة. هذه المسألة معدومة هنا.”
بدأ اليوم في الساعة الثامنة صباحاً بصلوات صباحية طوعية في الكنيسة الصغيرة، حيث يقع الضريح المزخرف لـ”ساتون”. وتم تقديم طعام الفطور في الساعة 8:30.
تستطيع الاختيار ما بين وجبة إفطار إنجليزية كاملة، أو خبز محمص مع مزيج من الحبوب والمكسّرات والفواكه المجففة، التي تؤكل بإضافة الحليب إليها.
تلت ذلك فترة حرة. يمكن للأخوة تنظيف غرفهم، أو الذهاب للتنزه، أو مراجعة الطبيب، أو قضاء بعض الوقت في حدائق المنزل.
قدمت وجبة الغداء الرسمية في القاعة الكبرى في الساعة الواحدة بعد الظهر: تطلّب الأمر ارتداء سترة خاصة؛ وارتدى معظم الأخوة رابطة عنق. وقفنا قرب كراسينا على تلك الطاولات الممتدة أمامنا، بينما كان هناك جرس يدق، ثم جرت قراءة مقطع للإشادة بالنعمة وتقديم الشكر لـ”ساتون”.
بعد تناول وجبة الغداء، جاء دور حلويات التفاح. واحتسى بعض الأخوة نصف لتر من البيرة أثناء تناول وجبتهم. وقد عمّت روح البهجة والأحاديث العذبة تلك الأجواء.
وسألت بعضهم إذا كان أي منهم قد عمل لقاء أجر ما، وأخبروني أن أحد الأخوة قد عمل مؤخراً. وقال أحد الرجال: “لا شيء يمنعك من العمل. إنه ليس مخالفاً للقواعد.” ما تعلمته كان على العكس، هناك قاعدة واحدة فقط: “عليك أن تنسجم مع الآخرين.”
لذا سألتهم، هل شعاركم هنا: “عِش ودع الآخرين يعيشون؟”
لكن أحد الأخوة الممتلئين والمتهكمين قال ساخرا: “بل إنه أقرب إلى ‘عِش ودع الآخرين يموتون'”. إنه قسّ متقاعد يدعى جون كووبر، وكان يجلس على يساري.
إن نظرتهم إلى الموت مرحة جداً. فقد أخبروني أن الصف العلوي من صناديق البريد، المخصصة لأكثر الأخوة المعمرين، يطلقون عليها اسم “صف الاحتضار”.
وسمعت بأنه يطلق على “تشارترهاوس” لقب “غرفة الانتظار”، بينما تُعرف المستشفى بلقب “صالة المغادرة”.
وكما عبّر عن ذلك أحدهم، ويدعى دادلي غرين، قائلا: “عندما يموت أحد الأخوة، نفتقده. ومن دواعي السلوى بالنسبة لهم أن يعرفون أنه قد جرى الاهتمام بهم كثيراً.”
بعد تناول الغداء، كان هناك المزيد من الوقت الحر. كان لأحد المجاميع القريبة من المستشفى درس في الغناء. وقد عاد أخوان بعد أن احتسيا الجعة بعد الغداء، بينما سار آخرون بتمهل ليكتبوا رسائل أو لينالوا قسطا من النوم.
نزهتُ، بصحبة الأخ فيل ستيوارت، عبر الحدائق الجميلة. مررنا بمشهد شاعري شمل الزهور الوردية الجميلة، ووزهور تاج الملوك، وزهور الورد بألوانها الصفراء والوردية. كنا نسمع همهمة مرور السيارات بلندن، ولكنها بدت بعيدة جداً.
يقول ستيورات: “وجدت السعادة والهناء هنا. إنه النعيم على وجه هذه الأرض”. وقضى ستيورات، وهو أمريكي يبلغ من العمر 68 عاما، عمره في شيكاغو، وكان يعزف على آلة بيانو في فندق.
ثم جاء وقت صلوات المساء في الساعة 5:30، وأعقبها تناول العشاء في الساعة 6:30، وكان الجو غير رسمي. بعد ذلك، غادر الأخوة كل إلى طريقه، فمنهم من ذهب إلى حانة، أو لمشاهدة التلفزيون في غرفهم، أو ليمارسوا لعبة ‘البريدج’، أو ليكونوا ضمن مجموعة قراءات شعرية.
ربما يصبح “تشارترهاوس” في الأعوام القليلة القادمة، أكثر ازدحاماً، إذ يعتزم أحد المتاحف وضع الخطوط العريضة لمتحف “تشارترهاوس”. ومن المقرر إفتتاح قسم المتحف هذا في خريف العام القادم، وهناك خطط أخرى لإيواء عشرة رجال آخرين.
رغم ذلك، من المحتمل أن يبقى ذلك البيت من أهدأ أركان لندن – وملاذاً للعيش الودي والحضاري. إذا تركتني زوجتي ونهارت شركتي، فأنا أعلم ما سأفعله.
بي بي سي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *