عبده جبير
كان قد نزل لتوّه من الفيّوم، بعد ستة أشهر كاملة لم تطأ فيها قدماه مدينة القاهرة، ذهب إلى شقته القديمة في حارة جريدة السياسة، المتفرعة من شارع المبتديان، بالسيدة زينب، ووجد نفسه وقد ترك الحقيبة في الصالة، ولم يفعل شيئا سوى أن فك أزرار بنطلونه، وفك زنقته، ونزل على الفور إلى الحارة، ثم إلى الشارع، ومشى حتى شارع الفلكي، واستدار يمينا حتى وصل إلى باب اللوق، وهناك أحس بالحيرة. هل يذهب إلى مقهى زهرة البستان القائمة في الشارع (في هذا الجو الخانق) أم إلى مقهى ريش حيث التكييف (لكنه تذكر أن ريش لم تعد مقهى وإنما مطعم يرتاده السياح).
التفت إلى الجالسين في مقهى الندوة الثقافية فلاحظ أن إحدى الشابات، وكان يراها كثيرا في هذا المقهى، لأنها كانت مميزة بعينها التي ترمش طوال الوقت، تمسك برواية «مئة عام من العزلة « بيد، وبالأخرى تسند خرطوم الشيشة بين شفتيها وهي تنفث الدخان بغزارة، وما ان مضى خطوات عدة حتى تذكر انه كان قد لمح شابا آخر في مقهى سوق الحميدية المجاور تماما، يمسك أيضا بمئة عام من العزلة، لصاحبها غارثيا ماركيز، فعاد إلى الحميدية، لكنه رأى الشاب الممسك بالرواية يقف وهو يضعها (الرواية) تحت إبطه، ويعدّ النقود للغرسون، فتحرك ناحيته، لكن الشاب أسرع بالحركة ناحية مقهى الحرية، فتابعه، ظانا انه ربما يكون متجها إلى هناك، لكنه وجده يسرع الخطى في اتجاه شارع نوبار، ورآه فعلا وهو ينحرف يمينا، وكان هو واقفا أمام مقهى الحرية، فنزل درجاتها السخيفة التي كثيرا ما تعثّر بها، وراح ينظر هنا وهناك، فلم يجد أحدا من معارفه أو أصدقائه، فتقدم وجلس في الجزء المخصص لشرب البيرة، فأسرع وهبة الغرسون إليه، ووضع أمامه زجاجة بيرة من دون أن يطلب، والحقيقة انه لم يكن راغبا في شرب البيرة في هذا الجو الحار، لكنه استسلم، وما هي إلا لحظات حتى عاد وهبة الغرسون يتمخطر، على الرغم من سوالفه التي غزاها الشيب، ومد يده إلى علبة سجائره، وأخرج واحدة، ووضعها خلف أذنه، وبلا مقدمات، ومن دون أي مناسبة، وجده يقول:
ـ فاكر الخناقة هنا مع عبد الرحمن أبو عوف؟
ومال للخلف:
ـ كانت خناقة إيه، لكن عبد الرحيم منصور الله يرحمه، أدّبه، تمام.
يا للهول.
فعلا.
كانت خناقة غريبة.
* * *
(كنت جالسا مع الناقد عبد الرحمن أبو عوف) كان الناس يصفونه في المقهى، مداعبة، بالناقد (الأشوس) والشاعر الغنائي عبد الرحيم منصور على الطاولة المجاورة بالضبط، وكانت الترجمة المصرية (هه: مرة أخرى) من رواية مئة عام من العزلة، المصرية، التي ترجمها سليمان العطار، قد صدرت للتو عن هيئة الكتاب، وكنت أنا قرأتها ورأيت أنها أفضل من الترجمة اللبنانية التي ترجمها أسامة منزلجي وصدرت عن دار الكلمة، التي لم استطع إكمالها (بسبب ما أسميته في حينه التلبك اللغوي) لكن أبو عوف كان قد سكر وقال زاعقا:
ـ موش صحيح، الترجمة اللبنانية أحسن.
قلت:
ـ أنا أرى أن المصرية..
ولم أكمل، لأن أبو عوف وقف فجأة ورفع زجاجة البيرة لأعلى:
ـ أنت حمار، وأنا ناقد كبير وأنت مجرد كاتب قصة، وحين أقول أنا رأيا تسكت أنت وأمثالك من كتاب القصة.
خاف عبد الرحيم منصور، الذي لم يكن قد شارك في الحوار، من أن تنزل زجاجة البيرة على رأسه، فينفجر بالدم، وهو كان صديقي وبلدياتي، فوقف وأمسك بها ـ الزجاجة ـ وعبد الرحمن يقاوم من أجل أن يخبط بها رأسي، لكن عبد الرحيم استطاع أن ينزعها من يده، فإذا بعبد الرحمن ينزلق ويسقط على الأرض وهو يرغي ويزبد:
ـ يا ولاد الكلب إحنا بنقرا 36 ساعة في اليوم وانتو تيجو تقولو: لأ وأيوه.
أشفقت عليه أنا وعبد الرحيم فرفعناه لأعلى،(كان هزيلا وخفيفا كالريشة) ودلق عبد الرحيم عليه كوبا من الماء الساقع حتى يفيق، فإذا به يعطس ويعطس، حتى أفاق ونظر لي وراح يبكي ويقول:
ـ أنت حبيبي حبيبي، لكن الترجمة اللبنانية أحسن.
ـ قلت:
ـ ماشي، أحسن.
وكان هناك رجل ذو عوينات كعب الكباية، من رواد المقهى الدائمين، وكان يدعي انه من الضباط الأحرار، ولم يكن يتكلم كثيرا، لكنه نظر ناحيتنا وقال:
ـ مثقفين انتو؟ هه هه هه. دانتو عار على جبين البلد دي.
وكان عبد الرحيم منصور قد اكتأب وغمز لي بعينه: بما يعني هيا بنا، وفعلا وقفنا ودفعنا الحساب فإذا بعبد الرحمن أبو عوف يخرج من حقيبته نسخة مئة عام من العزلة الترجمة اللبنانية ومدها ناحيتي:
ـ خد اقراها خد.
قلت:
ـ عندي.
قال:
ـ عندك المصرية، خد اللبنانية.
قلت:
ـ لا، عندي الاتنين.
لكنه أصر على أن آخذ نسخته، وخلاصا من المشكلة أخذت نسخته ومضيت مع عبد الرحيم، وما أن استدرنا لنخرج من مقهى الحرية حتى سمعته (أو هكذا خُيِّل إليّ) فقد كنت أنا أيضا قد تجرّعت ثلاث زجاجات متوالية من البيرة، في الفترة التي أعقبت محاولة الاعتداء عليّ من أجل مئة عام من العزلة:
سمعت عبد الرحمن يقول:
ـ على فكرة، كلامك سليم، الترجمة المصرية أحسن هأ هأ هأ هأ.
وراح في الضحك إلى درجة أن الرجل الذي كان يدعي دوما انه من الضباط الأحرار، ولم نكن في العادة نسمع له صوتا، راح معه في كريزة من الضحك التي استمر وصولها إلى مسمعي، حتى وصلت مع عبد الرحيم إلى تقاطع ناصية شارعي هدى شعراوي ومحمد مظلوم، تحت عمارة نجيب الريحاني، حيث كان السيناريست سيد موسى يسكن، أو بمعنى أصح، كانت لديه شقة مفروشة يستعملها كمكتب للقاء منتجي المسلسلات التلفزيونية التي لم ينفذ منها شيئا، كما يستعملها كغرسنييرة.
فوجئت بعبد الرحيم يُخرج من جيبه مفتاحا ويستعمله في خرم الباب، فقلت انه ربما يكون هو أيضا شريكا لسيد في هذه الغرسنييرة، لكنني على أية حال، حمدت الله أن الأسانسير كان يعمل، على غير العادة، وأننا وصلنا بسرعة إلى الشقة، واندفعت فورا إلى الحمام، وتبولت الزجاجات الثلاث التي شربتها، حتى أحسست بالراحة، وخرجت إلى الصالة، فوجدت رفا مليئا بالكتب، ولمحت الترجمة المصرية من مئة عام من العزلة منتفخة، بين صفحاتها، بقطع الأوراق التي ربما كانت تضم ملاحظات سيد عليها، ولكنني قاومت رغبتي في سحب الرواية لأنني كنت متعبا، فإذا عبد الرحيم يقول أن بإمكاني أن أدخل إلى أي غرفة من غرف النوم العديدة، وارتاح، لأنه سيقوم بإجراء مكالمة مهمة مع العندليب الأسمر، عبد الحليم حافظ، الذي طلب منه بالأمس أن يكلــمه في هذا الوقت، ليسمع رأيه في كلمات الأغنية التي أخذها منه بالأمس.
عاد من حلم يقظته، أو ذكرياته، وخناقة الترجمتين المصرية واللبنانية لمئة عام من العزلة، وأشار لوهبة الغرسون ليأتيه بزجاجة بيرة ثانية، وإذا بالشاب الذي كان يمسك بمئة عام من العزلة، في مقهى سوق الحميدية، يدخل مقهى الحرية متأبطا خصر فتاة كانت تهوى دائما أن تترك خصرها ظاهرا وتهز شعرها يمينا ويسارا، وكانت معروفة بأنها فتاة من فتيات مقاهي وسط البلد، وكانت تبدو مسطولة للغاية، لأن الشاب سندها حتى تستطيع أن تجلس على المقعد الذي كان يراه في المرآة، يترنح بها، ولكن الشاب أسقط مئة عام من العزلة على الأرض، فإذا بالغرسون يجري ويلتقطها ويمدها إليه، فوضح له أنها الطبعة العراقية التي ترجمها صالح علماني، وليست المصرية التي ترجمها سليمان العطار، أو اللبنانية التي ترجمها أسامة منزلجي.
الغريب أنه حين ذهب في زيارته الأخيرة للقاهرة لمكتبة آفاق، في وسط البلد، وجد عندها طبعة رابعة من ترجمة محمد الحاج خليل منشورة في بيروت أيضا عن المؤسسة العربية للدراسات، كما وجد طبعة جديدة من الترجمة المصرية أيضا، وقال له صاحب المكتبة مصطفى الشيخ الذي طبعها، إنها أحسن ترجمة، فضحك بصوت مسموع إلى درجة أنه رأى الانزعاج على وجهه، فحكى له حكاية الخناقة التي جرت منذ نحو أكثر من عشرين عاما في مقهى الحرية بينه وبين الناقد (الراحل الآن) عبد الرحمن أبو عوف حول مئة عام من العزلة، فأكد مصطفى أن هذه الرواية تسببت في مشاكل كثيرة، لأنه هو نفسه كاد يدخل في خناقة مع أحد العاملين في الهيئة المصرية العامة للكتاب، حين رأى عنده الترجمة المصرية التي كانت الهيئة قد طبعتها سابقا، وظن أنها اشترت الترجمة للأبد، ولم يكن هذا حقيقيا.
وماذا عن حق النشر، لمن هو، وما هي الحكاية؟
أكد له مصطفى الشيخ انه اتصل بالناشر الأصلي ليحصل منه على حق النشر، لكنه رفض وقال إنه لن يمنح أي عربي هذا الحق، لأن العرب ـ يقصد الناشرين ـ كلهم حرامية ـ فأوضح له انه من الأفضل له أن يعطي أحدهم هذا الحق ويستطيع هذا أن يحمي حقوق الاثنين، لكنه رفض، لذا قال إنه قرر أن يطبع الترجمة المصرية من مئة عام من العزلة لأن الرواية لا تكف عن توزيع طبعاتها واحدة بعد الأخرى، في كل البلاد العربية وهو ما لاحظه في المعارض التي شارك فيها من المحيط إلى الخليج.
قلت:
ـ هذا عجيب
قال:
ـ لا، ليس عجيبا لأنها رواية فاتنة،
وانه قرأ أغلب ترجماتها.
* * *
وبالمصادفة، عرف بالأمس من أحد الأصدقاء (فضّل عدم ذكر اسمه) أنه سمع بمخطوطة جديدة ترجمها مترجم شاب الى الأسبانية مباشرة، بل وقارنها بالترجمات الفرنسية والانكليزية أيضا، وان هذا المترجم الشاب ينوي طبعها على حسابه، حتى ولو وجد نفسه في مشكلة، فهو متيم بالرواية.
وعندئذ خاف أن يقول إنه متيّم برواية أخرى قصيرة لغارثيا ماركيز نفسه اسمها ليس لدى الكولونيل من يكاتبه، لكنه لم يقل شيئا، خوفا من أن تقوم خناقة أخرى، ربما انتهت بجرح أحد ولا تمر بسلام، كما مرت خناقة الناقد عبد الرحمن أبو عوف التي جرت منذ نحو ربع قرن.
أرخص طبعة
تذكر انه كان قد رحل إلى الفيوم من كثرة الخناقات التي كانت تجابهه كل يوم في هذا المقهى أو ذلك، حول أي شيء وكل شيء، حتى الروايات، مثل مئة عام من العزلة.
أحسَّ بالاختناق وقرر أن يعود فورا إلى الفيوم، قال:
إنه شيء لا يحتمل.
عليّ أن أعود بأسرع ما يمكن.
قام يتمشى ليلقي نظرة أخيرة على وسط البلد، فوجد الأرصفة مكتظة بالباعة الجائلين، قاوم الزحام حتى وصل عمارة وهبة قرب نهاية شارع قصر النيل، وهناك وقف أمام بائع الصحف الذي يذكر الآن انه كان قد اشترى منه نسخته الأولى من مئة عام من العزلة، فإذا به يفاجأ بنسخة خامسة (أو السادسة في الواقع) من مئة عام من العزلة، بدت من رسم الغلاف القبيح، أنها مزورة، أو لنقل معمولة تحت السلم.
امسك بالرواية فإذا بالبائع يقول إنها أرخص النسخ جميعا، وان ثمنها لا يتجاوز عشرة جنيهات، لكن المشكلة انه لا يوجد على غلافها أي اسم أو عنوان لأي ناشر أو مترجم، كما لا يعرف ما إذا كانت طبعت في مصر أم لبنان أم العراق أم قبرص، لكنها ارخص طبعة رآها في حياته.
مد يده بالجنيهات العشرة وأمسك بالرواية وهو يقول: من يعرف، ربما تكون هي الأفضل من بين كل الترجمات المصرية واللبنانية والعراقية وحتى القبرصية. من يعلم.
]]]
في طريق العودة، وعلى ناصية ميدان طلعت حرب، رأى حقيبة يد من ذلك النوع الذي يحبه، فدخل المحل واشترى الحقيبة، ووضع بها كل ما كان في جيوب سرواله، كما وضع مئة عام من العزلة في طبعتها المزورة.
علق الحقيبة على كتفه، واتجه إلى شارع الفلكي، الموصل إلى بيته، وفي نيته أن يغادر على الفور إلى الفيوم، حيث هناك بيته الصغير المطل على بحيرة قارون من جهة الشمال، وتحيط به الحقول من الجهات الأخرى.
لكن، وبالقرب من وزارة الداخلية، فوجئ بدراجة نارية تقترب منه وعليها شابان، الأول كان يقودها، والثاني اختطف الحقيقة وطار.
وقف مذهولا، لكنه لم يستطع عمل شيء، فقد كان متأكدا من انه لن يستطيع اللحاق بالدراجة النارية، بل ولا حتى أن يصرخ: حرامي، فقد أصبح في السابعة والستين من عمره، ويكفي انه لا يزال قادرا على العودة إلى بيته.
السفير