يسرى الجنابي
كان للروائي الراحل غالب هلسا أثر كبير في شيوع الدراسات النقدية المتمحورة حول “المكان” في السرد الروائي والقصصي، من خلال مقارباته النظرية والتطبيقية أولا، ثم ترجمته لكتاب باشلار “شعرية المكان” عام 1980 بعنوان آخر هو “جماليات المكان”، الذي نشر منه في البداية فصولا في مجلة “الأقلام” العراقية، حيث كان يعمل محررا فيها، قبل أن يصدر كاملا في أول كتاب ضمن سلسلة كتب المجلة.
وقد قدّم له هلسا بمقدمة بيّن فيها أهميته الاستثنائية في علم الجمال والنقد، لأن المكانية، كما يقول، “تتصل بجوهر العمل الفني”، ويعني به الصورة الفنية، و”الأدب العالمي هو الذي يتمّ التعبير عنه بالصورة، بينما يُعبَّر عن الأدب الكوزموبوليتاني بالزخرفة: الاستعارة والكناية والمجاز وغيرها”. و ينقل الأول تجربة، في حين يعبّر الثاني عن فكرة.
ميّز غالب هلسا في كتابه “المكان في الرواية العربية”، الصادر عن دار ابن هانئ في دمشق عام 1989، بين ثلاثة أنواع للمكان بحسب علاقة الرواية به، وهي:
1- المكان المجازي: وهو محض ساحة لوقوع الأحداث لا يتجاوز دوره التوضيح، ولا يعبّر عن تفاعل الشخصيات والحوادث كما نجده في رواية الأحداث.
2- المكان الهندسي: وهو الذي تصوره الرواية بدقة محايدة، فتنقل أبعاده البصرية وجزئياته، وتعيش مسافاته، من دون أن تعيش فيه.
3- المكان بوصفه تجربة تحمل معاناة الشخصيات وأفكارها ورؤيتها للمكان، وتثير خيال المتلقي فيستحضره بوصفه مكانا خاصا متميزا.
حينما نراجع اليوم اهتمام غالب هلسا الاستثنائي بموضوع “المكان” يبدو لنا أن ثمة عاملين أساسين يقفان وراء ذلك الاهتمام هما:
أولا، عذابات السجن المتكرر، حيث أطبق هذا الفضاء المعادي على وجدانه وجعله يبحث عن مقاربات فلسفية له حتى وجدها عند باشلار، فأمسك بدلالته “القمعية” بوصفه فضاء يفتقد إلى الشرط الإنساني، تتحقق فيه أقصى حالات “العزل”، بمعناه الفوكوي (نسبة إلى ميشيل فوكو)، ومصادرة الحرية، وتدمير الذات “يتخذ هذا المكان صفة المجتمع الأبوي بهرمية السلطة في داخله وعنفه الموجه لكل من يخالف التعليمات، وتعسفه الذي يبدو وكأنه ذو طابع قدري”.
ثانيا، تنقله طريدا ومبعدا بين أكثر من مدينة عربية، أو جغرافية مكانية (عمان، بيروت، بغداد، القاهرة، عدن، ودمشق)، وما يستتبع ذلك من استعادات متكررة لذكرياته فيها، وما تشكله من وعي مفارق.
لذلك فإن التصاق غالب هلسا بالمكان لا يقوم على وعي ظاهراتي محض، كما هي الحال مع باشلار، بل على وعي موضوعي بأهمية هذا المكون في السرد، فهو حينما جاء إلى بغداد عام 1976، مبعدا من القاهرة بسبب ترأسه هناك ندوة عن “المخطط الأميركي في المنطقة العربية”، انكب على دراسة بعض النصوص القصصية العراقية لاكتشاف بنية المكان فيها، وخاصة نصوص محمد خضير في مجموعته “المملكة السوداء”، مؤاخذا عليها ضعف عنايتها بهذا المكون الأساسي من مكونات السرد.
بعد أكثر من عقدين على صدور “جماليات المكان” وُجّه نقدٌ شديد إلى غالب هلسا لأنه أشاع مصطلح “المكان” بدلا من “الفضاء”، وعدّ بعض النقاد والدارسين العرب، خاصةً المغاربة، استخدامه مصطلح “المكان” حالة من الالتباس القصوى التي اقترفها في البداية، بل جناية لم تتوقف حتى الآن، حيث ظل يختلط مفهوم الفضاء بمفهوم المكان، مع أن الفضاء غير.. والمكان غير.
وفي هذا السياق وصف حسن نجمي في كتابه “شعرية الفضاء” هذه الجناية بأنها “من ذلك النوع الذي يمكن أن نسميه بالجريمة الرفيعة في حق الحقل النقدي والأدبي العربي” لأن ترجمة هلسا لكتاب باشلار تميزت، على حد قوله، “بضعف ملحوظ، ضعف كارثي في كثير من الجوانب، حيث هشاشة الإمساك بالمفاهيم والمصطلحات، مخاطر السقوط التي تستلزمها عادة كل ترجمة، ذهاب مع عكس المقصود تماما، وقفز على عبارات وجمل وكلمات ليس بالإمكان تجاوزها دون ارتكاب جنايات قصوى…”.
بيد أننا نرى أن هذا النقد يفتقر إلى الموضوعية، ويتجنى على جهود الراحل غالب هلسا، كما أنه لا يخلو من الغيرة بسبب ريادته في ترجمة باشلار، ومقاربته النقدية لمفهوم “المكان” في السرد الروائي والقصصي العربي، وتنبيهه إلى محورية الظاهرة المكانية في بنية الخطاب السردي.
العرب