غالب هلسا من زاوية شخصية.. ربما

غالب هلسا من زاوية شخصية.. ربما

يوسف ضمرة *

 

في ‬18 ديسمبر مات غالب هلسا، وهو كما يعلم الكثيرون اليوم الذي ولد فيه، وكما يفعل كثير من أصحاب الأحاجي، فقد لفت انتباهي أن عمره حين مات كان ‬57 سنة، وإذا جمعنا عمره إلى سنة ولادته ‬1932 يصبح لدينا ‬1989 وهي السنة التي مات فيها.

سوف أنسى هذا كله، وأكتفي باستذكار غالب هلسا الإنسان والروائي والناقد الذي عرفت، وكما عرفت، فقد التقيته أول مرة في مطلع الثمانينات في سهرة ثقافية جمعت عدداً كبيراً من الكتاب والمبدعين، كنت بالمصادفة إلى جانبه، وكنت أشعر برهبة ليست قليلة، فهو صاحب رواية الضحك والسؤال والخماسين وقصص وديع والقديسة ميلادة وزنوج وبدو وفلاحون، وهو واحد ممن قاموا بتلك الانعطافة الجديدة في السرد العربي في مصر، وخرجوا من عباءة نجيب محفوظ، وهو واحد ممن اضطهدهم السادات، لرفضهم زيارته الكارثية الشهيرة ومشروع اتفاقية كامب ديفيد، وهو واحد من الكتاب القلائل الذين أمضوا أوقات حصار بيروت عام ‬1982 بين المقاتلين على خطوط النار لا في الشوارع الخلفية. وقد أخبرتني ناتاشا، زوجة الشاعر غسان زقطان، بحضور غسان نفسه، أنها كانت تأخذ ما تيسر من طعام وشراب إلى بعض المواقع الأمامية، وتطلب من المقاتلين أن يحتفظوا بشيء لغالب هلسا الذي سيمر كما يعرفون.

هذه كانت صورة غالب هلسا حين التقيته، وهو ما جعلني أخاطبه بتحفظ كبير، وبرهبة ليست أقل، يومها لم يكن التواصل سريعاً ومباشراً، وانتهى اللقاء بخيبة كبيرة بالنسبة لي، لكنني بعد سنتين علمت أنه نشر لي قصة في مجلة كان يشرف عليها، وحين دعاني أحد الأصدقاء المشتركين لرؤية غالب هلسا ترددت كثيراً، خشية أن يكون اللقاء باهتاً كسابقه، لكنني في النهاية ذهبت حاملاً خوفي ومهيئاً نفسي لخيبة أخرى، كانت المفاجأة العظيمة أنه ما إن رآني حتى احتضنني وقال بلكنته المصرية: فينك يا يوسف؟ سمعت انك هِنا وانا بدور عليك، كان ذلك في دمشق الحبيبة، التي احتضنت كتاب العالم العربي ومبدعيه وفنانيه ومناضليه، إضافة إلى آخرين من غير العرب أيضا، دمشق التي تحولت بين ليلة وأخرى إلى مناحة وساحة يرقص فيها الموت والحزن، ومنذ تلك اللحظة يمكن القول بثقة إننا أصبحنا صديقين. وفي خلال تلك الصداقة تعلمت من غالب هلسا الكثير، تعلمت منه كيف أقرأ النص الأدبي، وكيف أفرق بين النموذج والنمط، ومتى تستخدم اللغة السردية الجافة واللغة الشعرية، وتعلمت منه كيف يكون المرء قادراً على الدفاع عن فكرته ومفهومه وكل ما يؤمن به، وإن لم يكن كذلك فلا قيمة لإيمانه بتلك الفكرة والمفهوم، ومنذ تلك الأيام غيرت رأيي في كثير من الأسماء الأدبية التي أعرفها، وفي كثير من الأعمال الإبداعية أيضاً، وكان ذلك كله يتم عبر محاورات مضنية لي وله على السواء. لي لأنه ليس من السهل أن تكتشف أن فكرتك التي حملتها وقتاً طويلاً عن شيء ما كانت خاطئة، وله لأنني كنت أحاول جاهداً أن أعزز فكرتي، ما يضطره لبذل مزيد من الجهد في تفكيك رؤيتي.

لو ظل غالب حياً لكان الآن يبكي دمشق التي جبنا شوارعها مشياً عشرات المرات ليلاً ونهاراً.


( الإمارات اليوم )

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *