فشة غل


*كرم نعمة

عندما سألت الكاتب الراحل جبرا إبراهيم جبرا في التسعينات من القرن الماضي في زمن كان الانترنت فيه أضغاث أحلام لنا في العراق آنذاك، عن دلالة الرسائل في تجربته، اختصر لي القول بانها “فشة غل”!

واليوم إذ نفتقد الرسائل بصفتها كائنات ملموسة تتجمل بمشاعرنا وكلماتنا الدفينة وتهكمنا وآمالنا وتساؤلاتنا وتوقنا وصورنا المطبوعة، بمن “نفش غلنا” بينما أصابعنا ترتجف على سطح هاتفنا الذكي، وكلماتنا سريعة ومكررة وجاهزة في كل ما نكتبه لأحب الناس إلينا.
اقتربت المسافات مع من نحب، لكنه اقتراب يحمل معنى البعد في أقصى وصف له، إن لم يكن الجفاء، فلم نعد نكتب بل نخضع للجاهز من جمل في عقولنا الإلكترونية.
افتقدنا دلالة الكتابة وعمقها في رسائلنا الإلكترونية السريعة وانتزعنا هيبة اللغة ورفعتها، ألم يحتفظ انجيلو ريتالدي بربطة عنقه احتراما لقواعد اللغة، ولا أحد منا يحتفظ برسائل مترعة بالحنين في زمن الهاتف الذكي، بل حتى صورنا فقدت حسها بصفتها صورا من زمن ما، بعدما صرنا نلتقط المئات منها في ساعات، أو حسب وصف الزميلة جوسلين إيليا “لا تشترِ الهاتف إلا والعصا معه!” وكأن صور السيلفي لا تؤخذ إلا بالعصا، هي صور عاصية على سهولة التقاطها مثل رسائلنا القصيرة المتشابهة، بينما لم تعد الكتابة بنك أحلامنا كما كانت عند ارنستوساباتو.
لست حزينا أكثر مما ينبغي مثل غيري من البشر على زمن الكتابة، لأنني لا استطيع التخلي عن كمبيوتري الصغير والجميل، أحمله معي أينما سافرت وكأنني لم أغادر منزلي، وهاتفي يبقي حواسي مفتوحة لكل ما يحدث في هذا العالم، ولم يعد القلم عندي يمتلك مواصفاته التاريخية وفقد ضرورته! لكن عند تأمل تلك السعادة التكنولوجية في لحظة هدوء مع الذات لا نجد غير قبولنا بخدعة مغرية والاستمرار فيها.
ماذا عن ذواتنا وطرقنا في التفكير والحساب بعد أن توفرت النتائج في كل ما نطلبه أمامنا بيسر؟ هل ستصاب أفكارنا بالوهن والارتخاء أمام الإغراء التكنولوجي، بعد أن استكنا للدعة؟
ثمة اعتراف جمعي بأن كل ما نكتبه اليوم في رسائلنا الإلكترونية والقصيرة لا يفش غلنا، لكننا لا نود العودة إلى زمن القلم والورقة والعواطف الفلكلورية، وهو أشبه باعتراف معلن بموت عواطفنا.
في يوم ما، لا يبدو أنه سيتكرر في الزمن الرقمي وما بعده، قدم جاك دوكلو لاراغون رزمة من رسائل وقال له: تفضل اصنع من هذا صرحا.
إن الحياة سوف تكون سهلة وبسيطة مع كل ما تحقق من أحلام تكنولوجية… ولكنها لم تكن كذلك، هوميروس ومن بعده كافكا كانا يقولان: البشر كقصاصات ورق تذروها الرياح الباردة.
________
*العرب

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *