صيف عربي طويل…


*عبده وازن

قرأت تحقيقاً أجراه الملحق الأدبي في صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية حول حركة النشر في الصيف وشارك فيه ناشرون تحدثوا عن الخطط التي يُعدّونها كل عام لترويج الكتب التي تلائم فصل الاستراحة، على الشواطئ تحت الشمس، وفي القرى والجبال، نهاراً وليلاً، أو في القطارات والطائرات والمقاهي. أما الملحق الأدبي في جريدة «لوموند» فاقترح على قرائه بألفة وتواضع، عناوين كتب تحسن قراءتها في الصيف، وقدمها بإيجاز وافٍ، عسى القراء يفيدون منها لقضاء صيف لا يخلو البتة من القراءة. هذا ما تفعله ايضاً المجلات وبخاصة المجلات الأدبية الشهرية التي تحتفل بالصيف بصفته فصلاً للقراءة فتمدّ القراء بقوائم كتب تختلف في حقولها وموضوعاتها.

الصيف هناك، في فرنسا وأوروبا وسواهما، فصل قراءة علاوة على كونه فصل النزهات والشواطئ والغابات والهواء الطلق والسهر والحرية. هذا ما تدل عليه قوائم مبيع كتب الصيف وظاهرة إقبال القراء على شرائها وكأنها وجدت لهذا الشهر، مع أن بعضها راج في الخريف أو في الشتاء، وبعضاً آخر هو من الأعمال المعروفة و»الكلاسيكية». إنها سياسة التسويق الذكية التي يعتمدها الناشرون الفرنسيون لترويج كتبهم الجديدة والسابقة والقديمة، التي تحتل واجهات المكتبات أو ترقد على رفوفها. وقراء الصيف هم أنفسهم قرّاء سائر الفصول، لكنّ أمزجتهم الصيفية تختلف عن أمزجتهم الأخرى. كتب كثيرة لا تُقرأ إلا صيفاً، بل كتب لا تحلو قراءتها إلا صيفاً في ضوء الشمس، تحت شجرة في حديقة أو على رمال الشاطئ… خصّت إحدى المجلات الفرنسية مرة غلافها بعنوان غريب: «قراءة الفلسفة على الشاطئ» وحمل الغلاف صورة فتاة تقرأ أرسطو أو أفلاطون، لم أعد أذكر، ممددة بـ «المايوه» على كرسي طويل. لم يكن الغلاف ترويجياً، بل عبّر عن «مرض» القراءة الذي يعاود أهله في عزّ الإجازة الصيفية. وآنذاك كانت كتب الفلسفة عادة رائجة بشدة.
صيفنا العربي يمضي بسرعة مع أنه أطول من صيف بلدان عدة. صيف يكاد يكون بلا كتب ولا قراءة ولا قراء… ولا ناشرين. سألت مرة ناشراً صديقاً عن تقاعس حركة النشر العربي في الصيف، فأجابني: إذا كان العرب، وهم أقل الشعوب قراءة، لا يقرأون في الشتاء والخريف فهل سيقرأون في شهر الإجازات والنزهات؟ ليس هذا السبب مقنعاً تماماً. العرب أقل الشعوب قراءة وفق الإحصاءات العالمية، لكنّ هذا لا يعني أن القراءة في عالمنا العربي غير قابلة للتنامي والصعود. وقد يتحمّل الناشرون قسطاً وافراً من تراجعها ومن عدم رواجها. صناعة النشر والتسويق ما زالت قديمة ومتأخرة في العالم العربي. وهذه الصناعة تحتاج حقاً إلى فعل إحياء وتحديث، وبخاصة في المجال التقني و»المعلوماتي» والإلكتروني. حتى الآن لا يبدو أن النشر العربي عرف كيف يفيد من الثورة الإنترنتية الرهيبة، لا في حقل النشر بذاته ولا في مهمة التسويق. والتسويق ينبغي أن يُفهم على أنه ليس التوزيع. التسويق ثقافة حديثة وشاملة لا تقتصر على توزيع الكتب كما يظن ناشرون كثر. واليوم بات التسويق في الغرب أوسع من النشر نفسه.
قد يبالغ الذين ينعون القراءة في العالم العربي. في هذا العالم قراء، قدامى وجدد، قراء شباب، قراء متقدمون في هذه «الحرفة». وهؤلاء هم نواة قابلة لأن تنمو وتتزايد، إذا قابلتها سياسة تسويق ذكية وحديثة. لماذا ازداد على حين غفلة قراء الرواية العربية؟ هل لجأ الناشرون إلى درس هذه الظاهرة والوقوف عندها أم أنهم ربطوها بصعود الجوائز العربية؟ هل عرفوا كيف يفيدون من هذه الظاهرة بعيداً عن إقبالهم على نشر الروايات أياً تكن؟
لا يعير الناشرون الصيف اهتماماً يذكر. لا يسعون إلى إقامة معارض صيفية كما يحصل في أوروبا. لا يقيمون مهرجانات ولا يعقدون لقاءات ولو خفيفة حول الكتب والأدب. لا يروّجون كتبهم وفق طريقة تليق بشهر العطلة. الصيف هو فصل عطلتهم أيضاً، وليعطّل القراء معهم. لكنّ المطابع لا تعطّل في الصيف بتاتاً. إنها قلب حركة النشر، هذه الحركة التي تكاد تصبح حركة طباعة.
صيف عالمنا العربي ليس قصيراً، صيف طويل شمساً وقمراً وبحراً وليالي أنس وسهر…لكنه أقصر صيف قراءة في العالم.
——-
*الحياة

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *