تانغو عربي


*خيري منصور

( ثقافات )

حد تجليات التانغو انه ديالوج، لهذا يشترط سواء كان رقصة أو حوارا وجود الآخر، وهو وجود غير افتراضي، لأنه عندئذ سيكون نسخة من الذات او ظلا لها، وكلما تذكرت بيت الشعر الذي استلهمه او احال اليه العديد من الشعراء العرب:
ذهب الذين احبّهم وبقيت مثل السيف فردا
أشعر بأن التانغو العربي مونولوج وان جذر هذه الظاهرة هو الراعي الذي يكون دائما بمفرده مع قطيعه وحين يستغرق في العزف الشجي على الناي لا يسمع غير صدى صوته واذا حدّق حوله أو خلفه لا يرى غير ظلّه. وحين اختار الراحل احسان عباس عنوانا لمذكراته لم يجد ادقّ من «غربة الراعي» للتعبير عن الوحدة المُزمنة، لكن هناك تجليات اخرى للتانغو العربي منها، رقصة المذبوح من الألم، إشارة الى الطائر الذي يُذبح فيرقص رقصة الاحتضار وهو يترنّح، وحين قال الشاعر العربي ان رقصه لم يكن طربا بل من شدة الألم بلغ ذروة الاشفاق على الذات، وهذا الاشفاق هو ينبوع النرجسية الجريحة التي عبّر عنها بشكل آسر مالك بن الريب وهو يرثي نفسه، حيث لا يبكي على فراقه غير السيف والرّمح، وحين استخدم الشاعر الراحل يوسف الصايغ مرثية بن الريب كان يمارس إسقاطا، ويتقمّص لحظة الوداع، سواء بالمعنى السياسي او الدلالة الوجدانية، فرثاء الذات هو اقصى اشفاق عليها، اضافة الى كونه دليلا على الغياب المطلق للآخر وكأن الراثي لذاته يردد ذلك المثل القائل ما حكّ جلدك مثل ظفرك لكن بعد تحويره الى … ما رثاك سواك فكُن الذات والآخر معا وكن يتيم نفسك وأرملتها ايضا.
وبالطبع لا يعني ذلك ان العربي اكتشف مبكرا ما سماه سارتر الجحيم هو الآخرون في مسرحية الحلقة المفرغة، لكن الآخرين ليسوا نعيما ايضا بالنسبة للشاعر العربي فهم مشاريع خصوم او صراع انداد او حُسّاد او وُشاة، ونجد ذلك على نحو بالغ الوضوح والتجسّد لدى المتنبي، فالاخر حتى لو كان شاعرا مثل أبي فراس قريب سيف الدولة شحمه ورم، والالتباس دائم بين الابتسامة وإبراز الانياب بحيث تُحذف المسافة بين القبلة والعَضّة، وليس هذا حكرا على العربي، ففي رواية زوربا لكازانتزاكي يرقص زوربا بمفرده لكن كالطائر المذبوح لأنها رقصة الألم وفقدان الابن، لهذا كان زوربا في تلك الرقصة يعانق ذاته فالمسألة اقرب الى تقبيل الذات، وهو أمر غير ممكن الا بواسطة المرايا تماما كلعبة تنس يمارسها الوحيد مع نفسه وبلا شبكة، ليكتشف بعد نهاية اللعبة ان كل ما احرزه من اهداف كان في مرماه، فهو خاسر بقدر ما هو رابح .
٭ ٭ ٭
من اتيح لهم مشاهدة طقس عزاء تمارسه الأرملة في بعض الأرياف العربية يدرك على الفور ان هذا التانغو الفريد يكون بلا شريك على الاطلاق، فالمطلوب من الارملة ان تعيد الرقصة السوداء ذاتها مع كل قادمة الى العزاء، وهذا ما يسمى مَسْرحَة العاطفة وليس التعبير البريء عنها، والرقصة السوداء هي ما يُسمى «الحَجْلْ « اي الدوران حول الذات حتى فقدان التوازن والاغماء. ان العدد الهائل من المواعظ والامثال الشعبية في موروثنا عن مديح العزلة والاحتراز من الاخرين ليس عابرا، بل هو بحاجة الى تحليل تحت مجهر سايكولوجي، فهل كان السبب البعيد لذلك حياة الصحراء وثقافة الغزو المتبادل؟ أم الريبة في كل ما هو خارج الذات؟
الاجابة انثربولوجية بامتياز وتستحق مقاربة أخرى لكن ما يعنينا في هذا المقام هو الافراط في الاشفاق على الذات الذي قد يصل حدّ عبادتها، مما يجعل من رقصة التانغو التي تشترط الثنائية امرا غير مألوف، وينوب عن هذه الرقصة المونولوج او الرّقص الذاتي، وهناك مقاربة تستحق التذكر في هذا السياق حول الرقص بمجمله قدّمها سلامة موسى في النصف الأول من القرن الماضي، قارن من خلالها بين الرقص الشرقي وانماط الرقص الاخرى، وأول ما لفت انتباهه، كما قال، هو ان الراقصة الشرقية لا تستغرق في التعبير بالجسد عن الانفعال، فهي ترقص وتتلذذ بالنظر الى جسدها لأنها ترقص للاخرين. وحين كتب كل من ادوارد سعيد وغابرييل ماركيز عن الرقص على تباعُد المسافة الزمنية وتباعد المُقارَبَتيْن ايضا، كانت الراقصة تحية كاريوكا هي التي اجتذبت انتباه سعيد عندما شاهدها وهي ترقص في احدى ليالي القاهرة، وقدم قراءة غير مُتعالية عن ادائها بدون ان يخفي انفعاله بها، اما ماركيز فقد كتب عن شاكيرا شيئا مُغايرا، وأصغى لايقاعات في جسدها هي البديل الصامت لكن الثرثار عن اللغة، وكأن صمت الجسد اكثر صخبا من صوت الغناء !
٭ ٭ ٭
اتساءل أحيانا، هل تمدد تعاطي الذات وإدمانها على الرّقص ايضا ؟ بحيث يكون الآخر صنيعة الذات او نتوءا منها، لأن التانغو رغم الإسفاف في استخدامه كمصطلح حتى في عالم الانترنت يبقى الاختبار الأعسر للاعتراف بالاخر بوصفه شريكا وندّا وفاعلا ومنفعلا في آن.
واجادة رقصة التانغو هي المرادف لاجادة الديالوج، ومغادرة الذات ولو لبعض الوقت، فمن يرقصون مع انفسهم هم ايضا الذين لا يصغون لغير اصواتهم ما دام الآخر مجرد مخاطب وكائن افتراضي، فالشاعر الجاهلي الذي كان يبدأ قصيدته مخاطبا الاطلال بكلمة خليليّ او اصحابي كان يمارس تقليدا نمطيا، وعلى الاغلب لم يكن هناك خليل او صاحب، لهذا سخر ابو نواس من الواقفين على الاطلال قائلا : ما ضرّه لو كان جلس!
من غربة الراعي ورقصته الشجية مع ظله وعلى إيقاع نايه الى اللحظة الطللية التي استوطنت الذاكرة ولم تعد حجرا او خيمة او روث غزلان او رماد موقد، كان المونولوج هو قدر الراقص مع نفسه وما ترسّب في اللاوعي تفتضحه بين وقت وآخر اختبارات التانغو، سواء كان عاطفيا او سياسيا او حتى ثقافيا. ان الآخر الغائب حينا والمُغَيّب أحيانا هو شرط استكمال الرقصة كما هو شرط استكمال الحوار، لكن فائض الاشفاق على الذات افرز هذه الفوائض من العُزلات!
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *