فن عربي صُنع في الصين


*فاروق يوسف

كان الرسام الفرنسي جورج براك يخفي رسومه الجديـــدة حين يزوره رفيقــــه فــــي التكعيبية الإسباني بابلو بيكاسو. يقـــال إن بيكاسو كان لصاً عظيماً. من وجهــــة نظر براك كان في إمكان ذلك اللص أن ينتج عشرات اللوحات الجميلة من استنتاج جمالي صغير كــــان بــــراك نفسه قد سبقه إليه. في حقيقته فإن بيكاسو كـــان لـــص حضارات وشعوب وفنانين. ألم يستولِ على جـــزء مهـــم من السحر الإفريقي الذي كانت تنطق به آلهة القبائل والأقنعة والتعاويذ في القارة السوداء؟ أكان للـــوحة آنسات أفنيون (عام 1907) أن ترسم لولا تلك القــــدرة الهائلـــة على التلصص العابر للقارات؟ غير أن بيكاسو كان في الوقت نفسه ابن الإغريق دائماً.

في تبريره للصوصيته يقول الفرنسي هنري ماتيس «إن الأسد هو مجموع الخراف التي التهمها، غير أنه يظل في النهاية أسداً» كان ماتيس قد تعلّم الدرس الاستشراقي جيداً فوصف طنجة المغربية كما لو أنها كانت مدينته، مثلما فعل بول كليه حين قرر أن يضيف سيدي بو سعيد في تونس إلى خزانة عاطفته الخيالية.
بيسر يمكن الرسامين أن يقولوا «لقد رأينا ما لم يره الآخرون من قبلنا فحقّ لنا امتلاك ما التقطه بصرنا» هذه الملكية هي حق مشروع يضمنه مبدأ الخلق الأرضي الذي يقوم على أساس قانون المادة التي تتجدّد لتظهر في صور مختلفة.
لا انقطاع إذاً بين العصور إذا ما تعلـــق الأمـــر بالفن. كان هـــنري مـــور معجبــــاً بالدمى السومرية فلم يجد حرجاً في إعـــادة صياغتها بالحجر بدلاً من الطين بعد تكبيرها. فلمَ لم يجرؤ النحاتون العراقيون على القيام بما قام به النحات البريطاني؟ في الوقت نفسه الذي كانت عيونهم فيه مفتوحة عليه وعلى الروماني برانكوزي والســـويسري جياكومتي والفرنسي هانز آرب. كما لو أن المعــاصرة كانت نوعاً من التزوير الروحي. وهو نظام أخلاقي لم تنجُ منه إلا قلة من الفنانين العرب. وهي القلة المحرومة من الأبناء والمريدين.
أتذكّر أن الرسام العراقي شاكر حسن آل سعيد (توفي عام 2004) كان مولعاً في الحديث عن التنصيص في ظل غياب النص الأصلي. «لا وجود للنص الأصلي» لم يقلها حرفيا خشية تعارضها مع معتقده الديني غير أن كل ما كان يقوله ويفعله يشير إليها. وإذا ما انتقلنا بتلك الفكرة إلى الفن يمكننا القول إن لا وجود للعمل الفني الأصلي. كل ما يقوم به الفنانون لا يمكن القيام به إلا عن طريق استعادة أعمال من سبقوهم، لكن بطريقة خلاقة. وهو ما يمكن النظر إليه بطريقة إيجابية خارج حدود النقل والتقليد والتزوير.
ما فعله العرب في القرن العشرين مع بداية حقبة التحديث فعله فنانو مناطق أخرى في العالم وبالهاجس نفسه. كان التلصّص على الفن الأوروبي باعتباره أصلاً وهمياً موقتاً واحداً من أهم مآثر الفنانين وهو ما يتماهى مع منطق القوة السائدة.
أما أن يرفع عدد من الفنانين العرب شعار «بضاعتنا ردت إلينا» وهم يقصدون الأسلوب التجريدي الذي أخذوه حرفياً من مصادره الأوروبية، رغبة منهم في التستر وراء مفهوم الأصالة، الذي هو مفهوم زائف فإن ذلك زعم باطل يتعارض جوهرياً مع فلسفة التجريد الغربي التي لا صلة لها بفلسفة الزخرفة الإسلامية.
كان فننا ولا يزال ينهل من مرجعية غربية لا معنى للقفز عليها ولا جدوى من إنكارها.
الآن وقد فقد الفن الأوروبي بريقه بسبب تخلّي غالبية المؤسسات الراعية للفن عن مفهوم الجمال في ظل انتشار الفنون المعاصرة المرتبطة بفكر ما بعد الحداثة وجد عدد كبيرمن فنانينا أنفسهم في حالة ضياع هي أشبه بالمتاهة ولم يعد أمامهم بعد أن فقدوا مرجعيتهم سوى أن يقلد بعضهم بعضهم الآخر. وهو ما لا ننكر وجوده من قبل على نطاق ضيّق وهامشي ومذموم على المستوى الأخلاقي.
عام 2006 أقام الرسام المصري عادل السيوي معرضه «نجوم عمري». الرسام الذي عُرف بشغفه بالغناء والسينما أراد أن يختبر حنينه إلى ماضيه الشخصي من خلال استحضار وجوه لشخصيات فنية تركت في نفسه أثراً خالداً فقرر أن يرسمها بأسلوب يذكّر بأسلوب الأميركي أندي وارهول. كانت أم كلثوم واحدة من تلك الشخصيات. لم يمضِ وقت قصير حتى صارت الكلثوميات قاسماً مشتركاً بين عدد كبير من الرسامين العرب، بل إن أحدهم خصّ أم كلثوم بمعرض ضم أربعين لوحة.
سيقــف عـــادل السيـــوي أمام كلثوميتــــه وكلثوميات الآخرين حائراً. لا بحثاً عن الأصل ولكن محاولة منه لفهم الطريق الضيّقة التي صار يمشي فيها الفنانون العرب بحيث يصطدم بعضهم ببعضهم الآخر كل لحظة.
هل صار الفن في بلادنا خاضعاً لمنطق الوصفات الجاهزة، بحيث صارالاستنساخ مشروعاً؟ سيكون علينا أن نتحدث عن الأسد الوهمي الذي يأكل خرافاً فيتحوّل إلى خروف. العديد من فناني اليوم هم ذلك الخروف الذي لا يزال يعتبر ثغاءه زئيراً. وهو مصدر كل هذا الضجيج الذي يحيط بنا من الجهات.
ماخلا تجارب فنية قليلة فإن مشهد الفن العربي لا يستحق الكثير من عناء النظر. هناك تفاوت في الدرجة (هذا أفضل من ذلك في المهارة والحرفة والتقنية واستعمال المواد) ولكن النوع يظل واحداً، وهو نوع لم يعد نافعاً معه الحديث عن الأصل الذي هو شكل من أشكال الوهم الذي اختبأت وراءه ثقافتنا لتسلّم في ما بعد جزءاً من شعبنا إلى التنظيمات الإرهابية.
فهل يعقل أن يمارس الفنانون الإرهاب، بعضهم في حق بعضهم الآخر في محاولة منهم لتكريس الصمت خوفاً من أن يفضح الكلام سرقاتهم، التي هي ليست نوعاً من التنصيص الذي تحدث عنه آل سعيد؟
فضيحة فنانينا اليوم تكمن في كسلهم الخيالي. وهو كسل أوهمهم بأن الينابيع الأصلية كانت قد جفّت ولم يعد أمامهم سوى اختراع ينابيع اصطناعية شاءت الصدفة أن تقع تلك الينابيع في أراضي مجايليهم من الفنانين.
هل ينفع ذلك التبرير في ما نشهده كل يوم من فضائح سرقات فنية؟ ولكن الأدهى والأمرّ يكمنان في لجوء بعضهم إلى الشركات الصينية من أجل تصنيع أعمالهم الفنية. وهو ما صار العراقيون يتداولونه من أخبار تتعلق بعدد من فنانيهم المعاصرين. فهل سيكون علينا أن نقرأ جملة «فن عربي صنع في الصين» ونصمت؟
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *