*بشار إبراهيم
بإدراكه اللحظة النادرة، التي ستصبح تاريخاً، يبادر المخرج الجزائري محمد زاوي، الى اغتنام الوقت الذي سيمضيه مواطنه الروائي الطاهر وطار، قبل رحيله عن عالمنا في ضيافته، فيقوم خلال تلك الزيارة الاستثنائية بالتصوير المُراقب والمتأمل والمتسائل، وهو التصوير الذي سيسفر عن مشاهد ولقطات سينهض عليها الفيلم الوثائقي «آخر الكلام»، لنكون أمام مادة بصرية نادرة، تحتفظ لنا ربما بآخر الصور عن صاحب «الزلزال» و «الحوات والقصر» وغيرهما من روائع الأدب الجزائري المكتوب بالعربية.
كان ذلك قبل شهرين من رحيل العم الطاهر، عندما مكث وطار في بيت زاوي، وبين أفراد عائلته، في علاقة تتبدى خصوصيتها، إذ سمحت بالتجوال في ثنايا ذاكرة العم، عودة إلى منابع الطفولة الأولى، ويفاعة الشباب، ومكونات التجربة الحياتية والكتابية ومرجعياتها، وتألقات الإبداع، التي أنتجت واحدة من أهم التجارب الأدبية الروائية باللغة العربية، متوّجة بالاسم الكبير: الطاهر وطار.
على سجيّته
يأخذ محمد زاوي قصب المبادرة من خلال الكاميرا، التي لن تترك العم الطاهر سواء كان جالساً أم مستلقياً على أريكة، أم يتوكأ على عكازته الشهيرة. وتنتقل معه في حالات ووضعيات مختلفة، فتارة نراه يغني من المأثور الغنائي الشعبي الجزائري، وأخرى يستمع إلى بعضها عبر جهاز الهاتف المحمول، كما ستدور حوارات مطوّلة ما بين المخرج الذي يحضر عبر صوته، والعم الذي نراه، على رغم وضعه الصحي، حاضر البديهة قريب الذاكرة.
يعترف الطاهر وطار (1936 – 2010) بأنه رجل يعيش التوتر الدائم، يعيش القلق، وإذا كانت فاتحة الكلام في الحديث عن علاقته بالموت، من رحيل الأب إلى الأخوة، إلى فكرة موته نفسه «بقدر كبير من السلاسة»، ومشيه في جنازته، وثلاثية: الموت. أنا. الناس. التي كتبها ذات نص، فإن فيلم «آخر الكلام» لا يمكن أخذه على نحو فيلم رثاء، بل هو فيلم حياة، يعزز من ذلك حضور الطفلة التي ستمثل لحظة أمل، وحياة، ومستقبل.
لا يستغرق الفيلم كثيراً في حديث الموت، بل يكتفي بإشارات، منها قول الروائي المصري جمال الغيطاني، إن الطاهر وطار كان مشغولاً بالزمن، وإن الانشغال بفكرة الزمن يؤدي إلى التفكير بالموت والانتقال. وأحاديث من عايشوا العم في أيامه الأخيرة، عندما لم يكن يبدي أي خوف من الموت، بل الرغبة في رحيل سلس، من دون أن يعني هذا الكفّ عن الحياة، إذ سيقول العم الطاهر إنه على رغم كل ما كان يُقال حوله في المستشفى، عن أمراض ألمّت به، فإنه لم يتوقّف عن الكتابة.
العزم على توطيد معطى الحياة تتعدد أشكاله في «آخر الكلام»، بدءاً من الغناء الشعبي الجزائري الذي يتعلّق به الكاتب الراحل بوجدانية عالية، كما يظهر لنا الفيلم، إلى درجة أن يتساءل العم طاهر: ما هي روحي إذا لم تكن عيسى جرموني، وحدة البقار، وصالح العبيدي، والشيخ بورقعة، وغيرهم؟… وصولاً إلى عكازته التي أسماها «أوباما»، وأضحت العصا السحرية التي كان يتحدث إليها، وينسج قصصاً معها، إلى درجة أنها أصبحت شخصاً كاملاً، وامتدت العلاقة معها إلى الطفلة (ابنة المخرج)، التي سيشكل حضورها تعبيراً عن نسغ الحياة المستمر.
ضوء على التجربة
التأسيس الأوّلي الذي يعتمده المخرج محمد زاوي، في وثائقـــي «آخر الكلام»، والمتمحور حول حضور العم الطاهر أمام الكاميرا، ينطلق في مراحل تالية نحو إلقاء الضوء على التجربة الحياتية والأدبية لأحد أعـــلام الثقافة والأدب العربي، في فعل بحثي وثائقي لا يكاد يترك وسيلة من دون أن يعمد إلى توظيفها، بدءاً من التعـــليق الصوتي الذي يقوم به المخرج نفسه، ومن ثم إدراج العديد من الشهادات والتصريحات، لأعلام وأدباء ودارســـين، عرفوا الطاهر وطار شخصياً، أو عرفوا تجربته الإبداعية، وواكبوها بعناية، حيث جرت الاستعانة في هذا السياق ببعض اللقطات الأرشيفية، وكذلك الانتقال إلى قريته مداوروش، بلدة وطار التي نشأ فيها وجاء منها.
سيخوض وثائقي «آخر الكلام» في عدد من التفاصيل، التي ربما ترضي فضول الباحث في المزيد من وقائع حياة الطاهر وطار، ومعاركه وسجالاته وجدالاته ومواقفه، وتكشف عن جوانب من شخصيته، وهو من سنسمعه في الفيلم يصف نفسه تارة بأنه رجل التوتر والقلق، ويشبّه نفسه بالذئب تارة أخرى، بخاصة الحادثة الشهيرة التي يرويها الرئيس السابق لاتحاد الكتاب، وزير الثقافة الجزائري، عز الدين ميهوبي، عندما رفض الطاهر وطار حضور الفاعلية التي أقيمت احتفاء به في قريته مداوروش، فغاب عنها، وكتب لقريته رسالة اعتذار.
برحيل الطاهر وطار في 12 آب (أغسطس) 2010، يتحوّل فيلم «آخر الكلام» للمخرج محمد زاوي، صاحب «العودة إلى مونلوك»، وثيقة بصرية، على قدر كبير من الأهمية، عن أحد أبرز أعلام الأدب والرواية في الجزائر، وفي العالم العربي. وثيقة تمزج الخاص بالعام، وتكاد تضيء على مرحلة تاريخية كاملة، أمكن للعم طاهر أن يكون من أبرز روادها.
_______
*الحياة