لؤي قاسم عباس
صَفيرٌ يَخْتَرِقُ سُكونَ الليلِ ، من دونَ أن يُخدِش آذان السامعين ، سمفونيةُ تعزفُ تراتيلَ الأمان ، لتقول لهم :- ارقدوا بسلام … فنحن ساهرون .
تلكَ هي صفارة العَمْ حمزة حينَ يجوبُ شوارعَ مدينتنا الصغيرة ، وهو يقودُ دراجتَه الهوائية التي تُسَابق الريح – وكأنهُ فارسٌ من زمنِ العصورِ الوسطى يمتطي صهوة جواده – يسيرُ في الليلِ بين الأزقةِ وهو يقلبُ أركانَ شوارعنا ويتصفحَ الوجوهَ ويسألُ الماره عن سرِّ خروجِهم بعدَ منتصفِ الليل…
ورغم إنَّه قد تجاوزَ العَقْدَ الخامسَ من عمرهِ إلا أنَّهُ ظلَّ محتفظاً بحيويتِه ونشاطِه، وكانِ اشهرُ من نارٍ على علمٍ . يَخافهُ اللصوصُ ويرتعِد منه قطاعَ الطُرق ويحظى باحترامِ الجميع ..
عندما كنا صغاراً كنا معجبين أيَّما إعجاب بصفارتهِ حيثُ كان يعلقُها برقبتِهِ وكأنها جزء لا يتجزأ منه ، وكنا ننظرُ إليها وهي متدلية علي صدرهِ فوق بزتِه الزرقاء ونتباهى إذا امسكَ احدنا بها ونشعرُ بسعادة غامرة لو أنه سمح لنا بان نلمسَها أو نصفَّر بها ، ولطالما تمنينا أن نمتلك واحدة مثلها فلقد كان شكلها اسطوانيا ولونها فضي وحجمها بقدر سبابة العم حمزة .
مازلتُ احتفظُ بذاكرتي بملامحِه. فلقد كانت عيناهُ واسعتين تبصران في كلِّ اتجاه وتخترقُ الآفاق ، تمتلآن رأفة ورحمة بنا نحن الصغار. غير أنَّ ملامحَه هذه كانت سرعان ما تتغير وعيناه تتوقدان غضباً إذا ما رأى الأشرار ويتوعدهم سوءاً إذا ما رآهُم في الليلِ سائرين – كان أبي يقول إن بصرهُ اكثرُ حِدَّةً من زرقاء اليمامة – ولستُ أنسى خداع أمي حين كانت ترغمني على أكل الجزر لتصير عيني مثل عينا العم حمزة ، زرقاء ، واسعة .
أما أذناهُ فهما أشبهُ برادارٍ تلتقطان الأصوات لا يخفى عليهما دبيب النمل ، وكانت له قدرات خارقة لمعرفة الشرِّ الكامن في النفوسِ وما يضمرهُ أصحاب النفوس الشريرة من خلال تفرسه بالوجوه و يتنبأ بالجريمة قبل وقوعها .
اعتاد أهلَ مدينتنا أن يخلدوا للنوم علي صوت صفارة العم حمزة وكأنها تنشدُ لنا أنشودة الأمهات (دللّول يالوِلَدْ يَبني دللّول ) فهي صمام أمان لنا لنسدل الستارة على أجفاننا وننام ملء جفوننا… هو وحده ُ مَنْ يحرسُ مدينتنا الصغيرة نسمعُ صوت صفيره في كل إرجاء المدينة يسابق الريح ويسبقه فهو هنا وهناك ، سلاحه (مكوار اسود) غليظ اشد فتكاً من مدفعٍ عملاق والويل لمن بطش به فهو يسببُ جرحاً لا يندمل إلى يوم يبعثون ويبقى عبرة لمن لا يعتبر ودرسٌ لمن تسول له نفسه العبثَ بأمنِ مدينتنا .
ذاتَ يومِ توعَكَ ابن جارتنا (أم أحمد) وكان زوجُها غائباً عن البيتِ. وما أن سمِعَتْ صوت صفارته حتى أسرعت لتستنجدَ بهِ وطلبت منه أن يصطحبهما إلى المشفى الخافر . فكان في حيرةٍ من أمره ، أما أن يمد يد العون لها أو أن يبقى ليحرسنا جميعاً ، فَكَّرَ طويلا ٍثم اهتدي إلى فكرة جهنمية طَرأتْ في ذهنهِ وأبقاها قيد الكتمان حتى أفشاها لنا بنفسه. فلقد أسرع إلى منزله واحضر ولده الصغير الذي لم يكن يتجاوز العشرُ سنوات وأعطاه صفارته وطلب منه أن يجوب الطرقات ويصفر بها ، فبينما كان صوت الصفارة يدوي في الأزقة كان هو وجارتنا في المشفى الخافر . وقد غَلَبَ الظن على اللصوص إنه هو الذي يجوب الطرقات فلم يجرؤ احد على الخروج… مرت سنين طوال لم يذق فيها طعم النوم ليلاً ، ولم يصل الى مَسامعِنا انه مَرِضَ ذات يوم أو انه أراح بدنهُ المُتعب. فكانت مدينتنا تنعمُ بالأمان، ونومنا هادئ، وأحلامنا وردية. وذات يوم فوجئنا بسرقة أحد منازل الحي وتعالت الصيحات من هنا وهناك: وأين كان العم حمزة ؟!.. فانبري صوت من بين المتكلمين قائلاً: ليرحمه الله فلقد توفي العم حمزة ليلة البارحة. وهنا أطرق الجميع وقالوا: ليرحمه الله فلقد كنا ننعم بالأمان بظله ثم أردف المتكلم الأول قوله: لقد أوصي بصفارته الى من سيحل محلهُ في حراستكم. وعليكم أن تبحثوا عن حارسٍ جديد وألا ستصير مدينتنا ميداناً للصوص وعرضة لقطاع الطرق.
* الزمان