تفرد نكهة الأدب


إبراهيم صموئيل

إن لم يكن العمل الأدبي -بالدرجة الأولى- يمثل وعدا يقدمه الكاتب للقارئ بهدف اصطحابه إلى عوالم مشوقة، ممتعة، مثيرة جذابة، ومن خلال مشاهد وصور وزوايا التقاط فريدة، منسوجة ببنية لغوية -نثرا كانت أم شعرا- رفيعة، ومبتكرة، ومتميزة.. فما عساه أن يكون؟

أعتقد أن الإمتاع لب العمل الأدبي، سمة رئيسة فيه وليست وحيدة بالطبع، العمل الأدبي فاقد الإمتاع ومهمل السمات الأخرى التي تميزه وتجعل منه أدبا إبداعيا يجد نفسه جزءا من منظومات فكرية فلسفية، أو متلبسا ملامح البحوث الاجتماعية أو منتجا في حقل الدراسات التاريخية أو التحليلات السياسية.
مشغل الأدب مشغل مختلف، ومنتَجه نتاج مختلف، ومسارات تكوينه مسارات مختلفة عما هي عليه الكتابة في الحقول الأخرى، كل ما يكتب -بشكل عام- هو نص، غير أن النصوص الأدبية لها لغتها وعوالمها وهمومها وأرضها الخاصة بها، لها مكوناتها ذات النكهة المغايرة.
لو كان شأن الأدب -بالدرجة الأولى- تقصي الفترات والمراحل والعصور التاريخية وتشكلاتها، أو البحث في البنى الاقتصادية وأزمانها ودوراتها، أو الغوص في دهاليز السياسة وكواليسها ومفرداتها لكان من الضروري اعتبار أعمال فيليب حتي ومحمد عابد الجابري وسمير أمين وعبد الرحمن الكواكبي روايات ومجموعات قصصية وشعرية!
إزاء كلام كهذا غالبا ما تتم المسارعة إلى القول: هل معنى ذلك أن العمل الأدبي مقطوع الأواصر مع محيطه الاجتماعي، ومنفك الصلة مع التاريخ ومراحله، وغير معني بالحياة الاقتصادية وأوضاعها؟
وفي الجواب عن السؤال أود استعارة ما قاله محمود درويش في حوار منشور معه حين سأله عباس بيضون: هل تعتبر نفسك شاعر الأرض؟ فأجاب درويش إجابة بديعة عميقة دالة قائلا “في شعري أرض”.
وفي الحق، فإن انتماء محمود درويش إلى الشعب الفلسطيني، وانغماسه في قضيته ونضاله، وهجسه الدائم بتحرر بلاده لم يبعده لحظة واحدة، ولا شغله أبدا عن همّ رئيس: بناء منجزه الشعري، وتطوير أدواته التعبيرية، والارتقاء بالمعمار الفني لقصيدته أعلى فأعلى.
وفي الرواية، سنلحظ بوضوح تام العناية المشددة التي يبذلها إبراهيم نصر الله، وحرصه البالغ على الزج بطاقته الإبداعية كلها لبناء نصه عبر سرد غاية في الإمتاع والجدة الفنية ورفعة التعبير وشبك الأحداث وبناء الشخصيات.. من دون تخليه لحظة واحدة أيضا عن شاغله الرئيس: القضية الفلسطينية.
إن الارتقاء بالتعبير والإفادة من كل إمكاناته من شأنه الارتقاء بالموضوع المعالَج وتعميق مضمونه، ولقد بات من الممجوج تكرار القول إن الموضوع لا يشفع، مهما كان مهما وملحا ومصيريا، لنص هابط فنيا، هش البنية، وفج الخطاب.
ما يحدث في عديد من الأعمال الروائية الصادرة أن كتابها لا يكتفون بإيلاء موضوعاتهم السياسية أو التاريخية اهتمامهم فحسب، بل هم ينغمسون بكليتهم فيها حتى ليبدو المنتج الروائي لديهم أشبه بالبحث السياسي، أو ألصق بالدراسة التاريخية!
إنهم يسعون خلف المخطوطات التاريخية، والوثائق، والمستندات، والمعاهدات، وسير الزعماء، باللغات العربية والأجنبية (وهي هائلة في عصر المعلوماتية وثورة الاتصالات) حتى إذا حصلوا على كميات كبيرة منها قاموا باختيار بعضها، وإعادة صوغها، وإجراء عمليات قص ولصق، بل وتضمين كتبهم صورا طبق الأصل عنها أحيانا، ثم قدموها للنشر بصفتها رواية!
أو تراهم يرصدون الأنظمة والسلطات الحاكمة، موثقين أفعال استبدادها ومفاسدها، وطرائق هيمنتها، ومظاهر قمعها.. وما إلى ذلك، وهمّهم الشاغل تعرية ممارساتها وفضحها وإدانتها عبر إصدارها في كتب على أنها روايات!
يجري ذلك عبر لغة تقريرية، مباشرة، عارية من أطيافها وتلاوينها ومجازاتها، وجمل إخبارية لاهثة خلف نقل الحوادث والأفعال والوقائع والتواريخ، بحيث يصير شغلها أن تعرّي وتفضح وتدين، مجترحة جرأة المواجهة وصلابة الموقف، حتى يخال القارئ أنه إزاء أدبيات لأحزاب معارضة سياسية، وبيانات صادرة عنها!
هل نتوارى خلف مقولة ترى أن الحقول والميادين والألوان والأجناس التعبيرية باتت متداخلة، متشابكة، لا حدود تحدها، ولا عوازل تفصل بين جزيرة منها والجزائر الأخرى، لنتخذ من ذلك ذريعة تبرر إطاحتنا بمعظم القيم الجمالية والسمات الفنية الضرورية اللازمة لبناء أي عمل أدبي إبداعي؟
وهل تبرر ذريعة من هذا النوع قيامنا بمحو الملامح المميزة، والمعالم الرئيسة، والتكوين الخاص للأدب ولغته وحساسيته واختلافه، وما يمنح أعماله من سمات يتخلق بها وعبرها ليكون مستحقا لاسمه؟
حتى أفلام السينما -الفن الأشمل والأكثر إفادة من مختلف الحقول والفنون وأشكال التعبير- تحرص على سمات ما يميزها، ويفرد بصمتها، ويغاير أسلوبها ولغتها المرئية عن أقرب الفنون الدرامية لها: الأفلام التلفزيونية، وفق ما يؤكده مخرجو أعمال كلا الفنين.
وإني لأحسب -في نهاية الأمر- أن الأدب ليس السياسة وإِن تعلق بها، وليس التاريخ وإِن أفاد منه، ولا الاقتصاد وإِن احتاج إليه، ولا علم الاجتماع وإِن استعان به، أو حتى أعانه، إنه يفيد من ذلك كله بالطبع، ولكن من دون أن يتماهى به، أو يتقمصه، أو يعيد إنتاجه، متخليا عما يميزه، ويفرد نكهته!
_____________
قاص وكاتب سوري/ الجزيرة

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *