مرجعية الأدب والفن؟!


* إبراهيم صموئيل

إذا صادقنا على محتوى المفهوم العام القائل بأن “العملة الجيدة تطرد العملة الرديئة”، فإن من المشروع أن نسأل: ماذا يحدث حين تتكاثر العملة الرديئة وتتناسخ، ثم تُغرق الأسواق بقطعها النقدية المزورة ويعم تداولها في مختلف المؤسسات والهيئات وبين الناس، بحيث تحتل أو تكاد مجمل مرافق الحياة ومناحيها؟

وعلى الجانب الآخر، ما حال العملة الجيدة في ظل وضع كالسابق؟ ما موقعها ودورها في مشهد اجتياح الرديئة، وغلبتها على التداول؟ ألا تقوم العملة الرديئة -خلافاً للمفهوم العام- بطرد الجيدة وتنحيتها؟ في المشهد الثقافي العربي يحدث الأمر نفسه.
ففي العقدين أو الثلاثة الأخيرة اكتسحت الحياة الثقافية الأدبية -وعلى نحو غير مسبوق منذ أربعينيات القرن الماضي- موجات متتالية من كتب صادرة في حقول الشعر والقصة والرواية لا لون لها ولا طعم، حتى أن زائر المكتبات لم يعد بإمكانه تمييز عناوين الكتب الصادرة، ولا حفظ أسماء أصحابها، لفيض ما صدر منها، ولتزاحمها على الرفوف والواجهات، ولتغطيتها إعلاميا بالأخبار والمراجعات الصحافية!
هل فيض كهذا هو ظاهرة صحية تدل على ارتفاع منسوب الثقافة في بلداننا العربية وازدياد أعداد الكتاب والمبدعين، أم حالة مرضيّة تشير إلى تدهور الثقافة وتراجع القيم النقدية والجادة، وتنذر بالمزيد من تفشي وبال نتاجاتها على الحياة الثقافية بعامة، وعلى ذائقة القراء بخاصة؟!
من النافل القول: إن الذائقة تُربى تربية، وتُدرب تدريبا، فإذا ما عم الفاسد وفرخ، فإن الذائقة ستفسد جراء ذلك وتتشوه، بحيث لا تعود تسعى إلا إلى الهش والهابط، وحينها ليس أمام المؤسسات ودور النشر والمراكز الثقافية -وفق ميزان إقبال المتلقي أو إدباره- إلا الانخراط بالسائد، وتكريسه بالتالي، بذريعة التعبير المصري الشهير: “الشبّاك عايز كده”!
و”الشبّاك” هنا هو المتلقي العربي بعامة، الذي أُفسِد ففسد، وعُودت ذائقته على الاستسهال فتعودته، وغُمرت حياته بالمستهلك البائس فانغمرت، وخصوصا إزاء أجيال فتية، ناشئة، تخطو خطواتها الأولى على دروب الثقافة، وفي حقولها المتنوعة، وهي في مرحلة تلمس مساراتها، والتعرف على ملامح الأدب، وعوالمه، ومكوناته، وقيمه.
الأمر الآخر، هو أن جيل الستينيات والسبعينيات من الكتّاب والفنانين -مثلا- إنما ولدوا من رحم مبدعين كبار سبقوهم، فنهلوا من أعمالهم، وتربوا على القيم الإبداعية النقدية الرفيعة، معترفين بأفضال الرعيل السابق، ومتهيبين إزاء تقديم منتجهم القصصي والشعري والروائي والمسرحي، إلى أن يتم تشبّعهم بالثقافة، والتأكد من نضج مواهبهم وملكاتهم للتمكن من رفد نهر الإبداع بجدارة.
في حين أن الحادث في العقدين أو الثلاثة الأخيرة هو انهيار الحدود والسدود وغياب القيم النقدية في الحياة الثقافية، بحيث شاعت -لا أدري من أين؟- مقولة: “قتل الأب” وتم العمل وفق “إلغاء تجنيس الأدب” وتحطيم سلطة أحرف الحاء الثلاثة: الحدث، والحبكة، والحوار، ومحو علامات الترقيم، فظهرت نصوص لا جنس لها، أبرز ما فيها، وأوحد ما يميزها كلمات مرصوفة إلى جانب كلمات!
فتحت الأبواب، وتوزع الحق على الجميع، وتهيجت الرغبة في المطبوع، فطفق طبيب -على شهرته في مهنته- يسعى لظهور اسمه في كتاب، وعمل مهندس -على تميز فنه المعماري- على إصدار أي مطبوع، وعزَّ على المحامي -رغم براعته في المحاماة- ألا يكون من عداد الكتّاب والفنانين.
وخلف هؤلاء اندفع مديرو مؤسسات ووزراء (وحتى بعض رؤساء دول) وقد شعروا بالنقص جراء خلو مكاتبهم الفارهة من كتاب يزينها بأسمائهم. والتحق بالأخيرين طلاب مدارس ثانوية منحهم نيل الشهادة شعورا بالكفاءة والجدارة -فضلا عن الحق- كي ينضموا إلى كوكبة الكتاب والفنانين.
قد ينبري البعض ليقول: ولكن حق الناس في التعبير -ومن جملته الكتابة والنشر- حق مقدس لا تجوز مصادرته أو التضييق عليه، وهذا صحيح. غير أن من الصحيح أيضا أن القراء ليسوا حقولا ومخابر لإجراء التجارب عليهم من قِبل كل من رغب أن يجرّب!
ما أرمي إليه أنه لا بد من مرجعية نقدية للقيمة الفنية ولمستوى الأداء في الأدب والفن أسوة بمرجعيات مختلف المنتجات التي تتعلق بحياة الناس. أليس لمنتج المواد الغذائية مرجعية تقوّم وتضبط وتحدد الفاسد من الصالح؟ أليس للأبنية والمنشآت نواظم تحكم معاييرها بدقّة؟ أليس للمنتج الصناعي ما يحكم صلاحيته وعدم إيذائه من ضرره؟
فلِمَ في حقل النشاط الفكري والأدبي والفني، والذي يتعلق بالغذاء الروحي للناس، وبتربية ذائقتهم، وببناء ثقافتهم، وبإنشاء أجيال كاملة ستتولى، فيما بعد، إدارة المؤسسات والهيئات والمراكز.. لم يصبح الحديث عن وجود مرجعية نقدية قيمية بمثابة مصادرةٍ لحق التعبير عن الرأي؟! لم يُترك الحبل، ههنا، على الغارب ليجرب من يشاء بالناس ما يشاء؟!
إن الدعوة إلى توفر مرجعية تقويمية قيمية لا تهدف، على الإطلاق، إلى إلغاء حق التعبير أو مصادرته، بل هي من باب الحرص على ذائقة المتلقين من أن تفسد، وعلى ذائقة الناشئة منهم من أن تنمو على الاستسهال والهشاشة فتسعى، بدورها، لأن تزيد من حالة التخريب للثقافة والإبداع.
إن أسوأ ما يمكن أن نسلكه في الحياة الثقافية بعامة هو أن نطلق يد الردَاءة والهشاشة من دون ضوابط، ونركن مطمئنين إلى مقولة “البقاء للأصلح” في فرز الغث من السمين، لأن وضع الصالح حينئذ، سيكون أشبه بوضع إبرة ذهبية في غمار من القش الفارغ! 
_______________
قاص وكاتب سوري

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *