وفاء السويدي
أتي كتاب «جمهرة الآداب في العصر الإسلامي الوسيط: البنية العربية للمعرفة» بمنزلة دحض للأسطورة الدارجة عن ذلك العصر بأنه عصر انحطاط وتدهور بعد عصر عباسي زاهر، للكاتب والدكتور العراقي محسن جاسم الموسوي الذي يقول في حواره مع «بيان الكتب»، إن الكتاب يبحث في ظاهرة المعاجم اللغوية والنحوية والموسوعات المعرفية.
ما السبب في تسمية الكتاب (جمهرة الآداب….) ومعنى استخدامك مفردة (جمهرة) بالذات؟
لهذه التسمية شأن خاص، فعندما راجعت، في مرحلة متأخرة من تاريخ تأليف الكتاب، ما ظهر في ميدان مقارب، وجدت أن تعبير «جمهورية الآداب» كان شائعاً عند الأوربيين بخاصة.
واعتماد هذا التعبير عربياً مربك وقاصر: فالقصد الأوروبي هو وجود ظاهرة معرفية واسعة تنطلق من بؤرة تصدير وجذب، شأن باريس في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وهذه الظاهرة تخرج عن حدود الدول وتقيم الصلة الثقافية بين أذهان أوروبية ذات مسعى متقارب أو مشترك. إذاً، فدلالة التعبير هي السعة والحرية وديمقراطية الرأي، وقيادة النخبة المثقفة.
لكن استخدامها عربياً يبدو قاصراً عن هذه المعاني. وأقرب مفردة هي «جمهرة»، لأن «جمهر» تعني الجمع والتفريق، وهي أصل للجمهورية كمفردة توازي ما درج عليه الفرنسيون، فدلالتها ديمقراطية لاسيما أنها تشتمل على الضدين، وتتيح «عبر الجمع والتفريق»، الاحتجاج واختلاف الرأي والجدل والمناقشة. وبالتالي، إحياء الفضاء العام اللازم لتنامي الظواهر المختلفة مؤسساتياً ومعرفياً.
مرحلة التقهقر
لماذا اخترت الحديث والتركيز على الفترة بين القرنين الثاني عشر والثامن عشر في هذا الكتاب؟
هذه الفترة هي مرحلة التقهقر السياسي الغالب، مع نجاحات هنا أو هناك، كما أنها الفترة التي اعتمدها المؤرخون في الكتابة عن العصور المظلمة، أو عصور الانحطاط: إذ وازى هؤلاء بين النكسة السياسية والانحدار الثقافي.
ونقل أوائل النهضويين (نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين) عن مثقفي عصر التنوير الأوروبي (القرن الثامن عشر) ازدراءهم الشديد للعصور الأوروبية الوسيطة التي رأى فيها غوته مثلاً «رداء تبنٍ رثٍ ».
وهكذا ازدرى النهضويون ما يوازيها في تاريخ العرب والمسلمين وتعاملوا معها على أساس أنها ثقافة حواشٍ وشروح، لا طائل منها، مقارنة بأدب بلغ منتهاه في عرفهم منذ زمن متوجاً بالمتنبي وأبي العلاء. وكما أوضحت في عشرات الأمثلة، كان كتاب «المفتاح» للسكاكي مثلاً، مثاراً للتعليقات والشروح طيلة فترة طويلة.
ولا يمكن أن نفهم معنى الظاهرة بدون العودة إلى الكتاب بصفته ارتقاءً بالدرس النحوي المحض إلى مستوى (المنطق)، والتأسيس المعرفي لشتى الظواهر المعرفية؛ ولهذا رأيته تكملة لما بدأه ابن وهب الكاتب في «البرهان»، عندما أرسى منطلقات نظرية خطيرة، أفاد منها وعاصرها إخوان الصفا.
هل صحيح أنك استغرقت 10 سنوات للتفكير في هذا الكتاب والتخطيط له وبدأته فعلياً سنة 2002، ولماذا هذه الفترة الطويلة، وما سر اختيارك هذا الموضوع؟
دعني أبدأ بالسبب. رأيت أن جهل العرب بسعة المنجز الثقافي والمعرفي فاضح وفادح، حتى أخذت المدارس والجامعات تلوك ما تلوك عن العصور المظلمة، ورأيت أنه برغم الانحدار السياسي طيلة تلك الفترة، فإن العربية وعلومها وميادين المعرفة عبرها ازدهرت كثيراً.
أعترف بوجود مشكلات أشار إليها ابن منظور الإفريقي في تقديمه لمعجمه المعروف لسان العرب، لكن هذه المشكلات تشبه إلى حد بعيد ما اشتكى منه ابن قتيبة قبل قرون، وهي موجودة باستمرار: من عزوف عن اللغة العربية، وميل للترجمة إلى اللغات المنافسة، وكثرة اللحن… إلخ.
لكن العربية استقطبت دارسين معروفين استمروا في استخدامها لغة لمنتوجهم المعرفي، حتى إن الشاعر الهندي علي آزاد بلغرامي استمر في القرن الثامن عشر يكتب الشعر والدراسة بالعربية، حتى أطلق عليه أمير اليمن حينذاك «حسّن الهند»، نسبة إلى حسان بن ثابت.
أما لماذا هذه الفترة الطويلة، فلأن كتاباً بهذه السعة وكثافة المعلومات والإحالات على كتب وقراءات، استدعى حرصاً شديداً وصبراً ومطاولةً تتيح للنظرية المعتمدة في الكتاب توظيفها كلياً وبتؤدة لتقصي البنى المعرفية وكيفية حضورها وغياب أخرى.
وكنت قد نشرت ابتداءً دراسة مطولة تقدمت موسوعة كامبردج للأدب العربي في العصر المذكور، وتبعت تلك بأخرى لمجلة دراسات مملوكية الأميركية (جامعة شيكاغو). ولم يحتو الكتاب الجديد هاتين الدراستين: فهو جديد برمته، صارم في التنظير والنظرية الأساس، واسع في المعلومات، محتضن لما يخطر ببال القارئ ويقع في باب (المعرفة)، كبنى وتراكيب ومسوغات وسياقات.
الحضارة الإسلامية
هل صحيح أن العرب لم ينتجوا كثيراً من العلوم والآداب، وأن التهمة التي تقال عن ذلك العصر إن مادته إعادة إنتاج عارية عن الصحة؟
ينبغي أن نتذكر أن الحضارة الإسلامية، وبغداد تحديداً، كانت (شاملة)، احتوت الثقافات الأخرى واحتوت في داخلها من غير العرب الآلاف من العلماء والكتاب والفقهاء، وعندما نقرأ ألقاب هؤلاء نعرف أنهم ينحدرون من بلخ ومرو وسجستان وأصفهان وجرجان، وعشرات الحواضر والمدن، ذلك لأن عدد العرب الذين قدموا من القبيلة والصحراء لم يكن كبيراً مقارنة بالدفق الجديد المقيم في المدن والحواضر الإسلامية الواسعة المتنامية.
ولهذا نذكر: الفارابي، والجرجاني، (الشريف وعبد القاهر وعبد العزيز) والتفتازاني والطوسي وسيبويه والطبري وفخر الدين الرازي وابن القيم وابن الجوزي… إلخ. هؤلاء افتخروا بالعربية وابدعوا في ميادينها، وقاتلوا في حمايتها والذود عنها، كما فعل صاحب «الكشاف» جار الله الزمخشري مثلاً.
أما الحديث عن العصور المظلمة، وأنها مرحلة شروحٍ وحواشٍ وإعادة إنتاج، فكلام حق يراد به باطل. كانت هناك الشروح والحواشي، لكن هذه وجدت لسبب، هو حاجة الجمهور إلى المزيد من جانب، وإلى جوامع المعارف أو المراجع والمعاجم، من جانب آخر، وما بدا سلبياً هو وضع إيجابي يشير إلى تزايد القراء خارج فئة النخبة.
الأدب الوسيط لم يكن يريد أن يكون نخبوياً: ولهذا كانت السخرية تقيم جنباً إلى جنب مع الأدب الجاد عند ابن سودون وغيره، وصولاً إلى الشربيني في (هز القحوف). وهناك ظواهر جديدة كثيرة ميزت ثقافة المرحلة، وعرضت لها بالتفصيل. بينما كانت ظاهرة المعاجم اللغوية بمنتهى الأهمية: فلم نزل نستعين بهذه المعاجم وكتب التاريخ ومقاربات التاريخ والأدب والعلوم الاجتماعية.
قلت إن «الموضوع العرقي لم يدخل في الثقافة سابقاً»، كيف ذلك، وما أهميته؟
حمل الإسلام رسالةً نبيلة، إذ أكد تعارف الأمم الجديدة المنضوية تحت لوائه وتداخلها ومساواتها، ولهذا لم يكن «العرق» فاعلاً، لكنه كان يظهر، كما هو الأمر دائماً، في أيام الصراع على السلطة. فيجري امتطاء حصان «العرق» والنسب العريق والدم النقي، لتبرير أمر ما.
أما الواقع فشهد انصهاراً عظيماً للثقافات داخل اللغة العربية ومعارفها، حتى ازدهرت وتعاظمت وانتشرت. وكان كتاب الله عز وجل حاسماً في ذلك. ومن جراء الانتماء الأوسع للثقافة العربية، كنا نشهد في ذلك العصر مشاركات كبيرة وواسعة.
منهجية جديدة
ما السبب في التنوع والمنهجية الجديدة في كتابك؟
حتمت المادة منهجية جديدة، إذ لا بد من قراءة تحولات الذهنية العامة والخاصة، وصعود أو هبوط الظواهر، وطبيعة سلالات نسب هذه الظواهر، وتنامي أو غياب أخرى، ولا يمكن للكتاب أن يأتي محض سردٍ أو رصف مسطح للمعلومات والمعارف والكتب، فهذا موجود في عدد من «الأدلة» والكتب المساعدة.
كان التحدي إشكالياً، أولاً: فلماذا كانت هناك ظواهر بعينها؟ وكيف تنشأ هذه؟ وما تفاوتها عن غيره على مستويات سيميائية وأبستمية (علاماتية، وتأسيسات معرفية)؟ وكيف تتشكل شبكات التواصل؟ وما مداراتها؟ وما مدى القدرة على الاستمرار في ظل اختلاف أو غياب وموت دارسين؟ هذه الأسئلة حاضرة وشاخصة باستمرار، ولهذا جيء بالكتاب بهذا المستوى المعرفي الصارم، والسهل الممتنع أيضاً.
البيان