قيس مجيد المولى
ما ان بدأت الطائرةُ بالإرتفاع من مطار البحرين حتى بدأ هاجس التفكير بكيفية قضاء هذا الوقت الذي يبدو طويلا نسبياً للوصول إلى العاصمة السورية “دمشق”، قبل ذلك كانت مخيلتي تفترس الوجوه في السوق الحرة وتقف إزاء النقاط التي لم يرد ذكرها في حافظة الأسماء والأماكن التي أسست لها مكاناً مستقراً وأحالت ما أراه إلى توابعَ تدور حول الفلك المشهود.
وكالعادة وقبل أن ترتفع من الأرض قرأ الكابتن “سبحانه الذي سخر لنا هذا وما كنا لهُ مقرنين..” ليستقر الجسد الهائل في أعالي الفضاء الرّخو، وبعد أن فككنا الأحزمةَ تصفحتُ كتاباً في تدريبات اللغة الإنكليزية ووجدته مفيداً لاستكمال لغتي تلك، ثم تطلعتُ بمللٍ إلى شاشة التلفاز الصغير الذي أمامي وبدأت أعبث بمحطاته متنقلا ما بين الارتفاعات التي تظهر على الشاشة والأرض التي نٌقلت إلى السماء ثم إني لم أكن من محبي متابعة الأفلام والمسلسلات لكني ومصادفةً شاقني أن أتواصل مع عادل إمام في أحد أفلامه التي لم أرها من قبل وتبين لي أثناء المشاهدة بأنه “مرجان أحمد مرجان”.
وتدريجياً انسلختُ عما أحاطني ويحيطني ونسيت الطائرة ووجبة الغذاء التي قدمت لي لأستمتع بأجملِ وأجرأ الأفلام التي تقدمُ نقدا لمحاور متعددة في مجتمعنا العربي.
وحين هبطت الطائرةُ مطار دمشق بعد وقت قصير من انتهاء هذا الفيلم وجدت الإجراءات في المطار ميسرة وسريعة ولكون رحلتي قصيرة بعض الشيء اتجهت إلى سوق الحميدية كون هذا السوق يعج بأبناء بلدي فقلت لربما أجد منهم من ألتقيه ويطرد عني شبح غربتي.
وأثناء بحثي ذلك عدت لدوراني بين الوجوه وكعادة الشعراء فهم ينظرون إلى الآخرين من زوايا لا يراها غيرهم وهم يرون ما يريدون، وهكذا رحتُ أعطي لكل ذي حقٍ حقه وفق مواصفات مخيلة مشاكسة وغير قنوعةٍ ولا تستقر أبداً، وهكذا أوصلتني قدماي إلى حيث الجامع الأموي والذي يقع في نهاية السوق.
أمام هذا البناء الشاهق وقفت وتأملت، ولأن السفرَ متعة ومعرفة كان لا بد لي أن أتعرف على ما يمكن التعرف عليه، ولا أكتفي بمشاهدة عابرة.
قرأت على قطعة مرمر وضعت على يسار المدخل وكتب عليها “إن الجامع بني في عهد الوليد بن عبدالملك سنة 86 هـ – 705. وفي الجهة اليمنى من الباب الرئيس كانت هناك لوحة خشبية كتب عليها بعض التعليمات وجلها من الممنوعات التي لا يسمح للزائر أو الزائرة بدخول المسجد دون التقيد بها ومنها “يمنع دخول النساء بدون الحجاب” والممنوعات الأخرى جلها من أجل المحافظة على النظافة.
وقد لاحظت أن الجامع محاط بأربعة شوارع صغيرة تسمى جادات حيث أشارت لوحة معلقة في الواجهة الأمامية إلى أن الجادة الأمامية تسمى “شارع المدرسة الصادرية” وهي نسبة لأول مدرسة فقهيةٍ أنشأت في دمشق في العهد السلجوقي أنشأها شجاع الدولة صادر بن عبد الله سنة 491 هـ وزال بناؤها عند تنظيم ذلك المكان عام 1983.
أما الجهة اليسرى من الجامع فيسمى شارعها بــ “شارع القباقبية” وقد ذكر لي عامة الناس بعد الإستفسار منهم عن هذه التسمية أن هذا الشارع كانت تقع فيه محال صنع القباقيب حيث كان استخدام القباقيب شائعاً من قبل الرجال والنساء والأطفال. وذكر لي أحد المسنين بأن الأحذيةَ كانت حصرا على الأغنياء.
ويمتد من هذا الشارع شارع فرعي “شارع القوافين” ويحتوي على أملاك لمواطنين جعلوها وقفاً للجامع الأموي، أما الجهة الخلفية من الجامع فيقع شارع “النوافرة” وسمي بهذا الاسم لوجود مجموعة من النافورات ولم يبق منها الآن إلا واحدة صغيرة أصبحت من نصيب أحد المقاهي.
وفي هذا المكان يوجد العديد من المصطافين الأجانب كونها تحتوي على محالِ بيع التحف التذكارية واماكن الاستراحة، أما الجانب الأيمن الذي يبدأ من مسجد السيدة رقية فسمي بشارع الكلاسة نسبة إلى المحال التي كانت تنتج اللبن الأبيض (الأصباغ) لدهن البيوت من الخارج، قلت لنفسي بعد تناولي لقدح من الشاي في واحدة من تلك المقاهي قلت: هذا يكفي.
ولكني حين هممت بالمغادرة من شارع الكلاسة، شاهدت باباً ضخما فسألت أحد السورييين عنه فقال لي بأن دمشق القديمة تحيطها تسعة أبواب وهذا الباب يسمى بباب الفراديس وقرأت تعريفاً وضع عليه: “أنشيء هذا الباب في العهد الروماني ويرمز إلى كوكب عطارد وأعيد ترميمه من قبل الملك الصالح عماد الدين إسماعيل سنة 639 هـ – 1241 وعرف لي آخرون أبواب دمشق القديمة تلك فذكروا (باب المصلى – باب الجابية – باب الفرج – باب السلام – باب البريد – باب توما – باب شرقي).
وأخبروني إيجازاً بأن باب الفراديس يسمى بباب الكراديس حيث تجمع عنده المقاتلون العثمانيون والسوريون لمقاتلة الرومان، أما باب البريد فقد كان الباب الذي يذهب منه السعاة لتوزيع البريد وكذلك استلامه، وكذلك بالنسبة لباب الجابية الذي تتجمع الجباة عنده، وقد أشار متحدثٌ أخر إلى حارة جانبية تسمى “حارة المدرسة الجقمقية” التي شيدها في العهد المملوكي نائب السلطان الأمير سيف الدين جقمق سنة 824 هـ وقد أصبحت الآن متحفاً للخط العربي ومن هذا الزقاق تستطيع الدخول إلى مرقد صلاح الدين الأيوبي.
وأثناء تجوالي وسط أعمال الترميم الجارية في هذا المكان شاهدت قبرين متساويين في الشكل والمساحة حيث كتب على شاهدة القبر الأول (ياسين باشا الهاشمي. أستشهد 27 كانون الأول 1927. وكتب على الشاهدة الثانية (الدكتور عبدالرحمن صباح/زعيم سياسي اغتيل من قبل الفرنسيين عام 1937، وإلى جانب هذين القبرين قبورٌ ثلاثة لطيارين أتراك.
عند خروجي من باب الفراديس إلى نهاية الشارع حيث ينتصب نصب صلاح الدين الأيوبي. وأنا أحدق إليه سألني عن الإنترنت وبأنه قرأ من خلاله عما نحن فيه الآن وشاهد المدن التي تحيط بها حواجز الكونكريت المسلح ذات الباب الواحد حيث يمرق الآلاف من البشر عبر فتحاتها القاسية. أخذت له صورة وأخذ لي صورةً وكانت الشمس قد سرقت ملابسنا منا ولم يبطل سائقو السيارات من التزمير ونحن غير مكترثين لعرينا ولذلك النهار الذي لم يحل الليل عليه بعد.
ميدل ايست أونلاين