*هيثم حسين
انبرى كثير من الأدباء والمفكرين لمقاربة واقع الصورة والكلمة، ومدى التداخل بينهما، وعن التأثير والتأثر المتبادلين بينهما، وانعكاس آثارهما على المتلقين أو المستقبلين الذين يجدونهما أساسين لعملية إبداعية متجددة، تستمد أسباب بقائها واستمرارها من قوة عناصرها، بحيث أن الصورة تكون مشبعة بسيل من الكلمات والرموز، والكلمة سلسلة من الصور المتكاملة في دائرة الإبداع.
مستودع الخيال
يمكن تذكر المفكر الفرنسي رولان بارت الذي توقف في كتابه “الغرفة المظلمة” عند عالم الصورة وتأثيرها عليه، وإن انطلق من الصورة الفوتوغرافية وركز عليها، إلا أنه انتقل إلى الصور الأدبية الكامنة في الصور الفوتوغرافية، بحيث التقط خصوصية العلاقة بين الصورة الأدبية والفوتوغرافية، والتأثير المتبادل بينهما، وما توحيان به للمتلقي الذي يقرأ كلّ واحدة منهما على طريقته، وحسب خلفيته الفكرية والثقافية.
يقول رولان بارت في كتابه إنه لاحظ أن صورة ما يمكن أن تكون موضوعا لثلاث ممارسات، “أن تفعل، أن تتحمل، أن تتطلع”. وإن “المصور هو الفاعل، المشاهد هو نحن جميعا، الباحثين في الجرائد والكتب والألبومات والأرشيفات على مجموعات من الصور. وهذا أو ذاك مما تمّ تصويره هو الهدف، هو المرجع، من قبيل طيف خافت، هالة المصور الذي يسميه المجال الشبحي للصورة”. ويبرر توصيفه بأن الكلمة تحتفظ من خلال جذورها بصلة مع المشهد، وتضيف إليه هذا الشيء الذي يبدو مفزعا قليلا في كل صورة: العودة من الموت.
ويحضر المجاز والاستعارة في توصيف بارت للعلاقات بين المرء والصورة والكلمة، وتراه ينطلق من توصيفه لعلاقته معهما قائلا إنه حين يقف أمام العدسة لا يتعرض لنفس المخاطرة، وإنه حين يقول بأنه يستمد وجوده من المصور هو من باب المجاز، ولكن بالرغم من أن هذه التبعية متخيلة، فهو يعيشها في قلق متوالد غير مؤكد، إذ تولد صورته، وينتابه تساؤل لو أنه يستطيع التجسد على الورق مثلما على لوحة كلاسيكية، أو يتجسد رسما، لكن يريد أن يدرك، أنه نسيج معنوي رقيق وليس محاكاة.
يشير بارت إلى حضور النص في الصورة، والصور في النصوص، ويصف الصورة بأنها محض صدفة خالصة ولا يمكن أن تكون غير ذلك، إذ أنها دائما ما تعرض شيئا ما، على عكس النص الذي يستطيع، عن طريق التأثير المباغت للكلمة أن يمرر جملة تنطلق من الوصف إلى التأمل، وتقدم الصورة على الفور تفاصيلها التي تؤلف المادة الخام نفسها للمعرفة الإثنولوجية.
تداخل الفنون
أما مواطنه الفرنسي جيرار جينيت فيتحدث في أكثر من كتاب من كتبه عن تداخل الفنون وتأثيراتها المتبادلة في ما بينها، كحضور الشعر في الرواية والمسرح والسينما، وتخلل السرد لعالم الشعر والفن، أو مسرحة الرواية وتصويرها كأنها خشبة مسرح تؤدّي عليها الشخصيات أدوارها المفترضة. وقد فصل جينيت في تفكيكه وتحليله لبنية عدد من النصوص، واشتغالات أصحابها، وملامح من الانتقال بين الفنون، بحيث تتلاقى في نقطة التجاوز والعبور، ولا تكتفي بجانب واحد، بل تنصهر الفنون في إطار عمل يقدّم تحت تجنيس بعينه، في حين أنه حاضن للفنون والأجناس الرديفة.
مثلا في كتابه “الانتقال المجازي من الصورة إلى التخييل” قارب جينيت العلاقات المجازية بين حالة الكاتب وحالة القارئ، عن التواصل بينهما، بين الأبطال في الروايات والقرّاء، بين شخصيات المسرحيات والأفلام وجمهورها. لقد أجرى تطبيقاته على كثير من النصوص الشعرية والسردية، سواء كانت روايات أو مسرحيات، بالإضافة إلى عالم السينما، والعلاقة بين الصورة والتجسيد، وتبادل التأثير والتأثّر والاستلهام في ما بينها.
قام جينيت بدراسة الصور البيانية وتحويلها إلى عالم السرد، مع الإشارة إلى التخييل، وحرص على أنه يجب أن نسمّي الأشياء بأسمائها، ووصف الممارسة اللغوية بالانتقال المجازي، أو الانتقال التتابعي التراكمي، وأشار إلى أنه من المنطقي الاحتفاظ بمصطلح “الانتقال المجازي” على الأقل للتعبير عن التلاعب المجازي والتخييلي أحيانا، بما أن فكرة الكناية تحتوي بين صيغ التحول وبواعثه على تحديد الحدث بواسطة السبب وبالعكس. ويجد أنه تلاعب بهذه العلاقة السببية الخاصة التي توجد بشكل أو بآخر بين الكاتب وعمله، أو بمعنى أوسع، بين منتج هذا التجسيد والتجسيد نفسه.
يظل حقل الكناية والاستعارة والمجاز في اتساع يتناسب طردا مع التطور الذي تشهده الصورة، والتغيير الذي يطال مفاهيم التجسيد، والتأثير الذي يتجدد ويتطور بدوره لدى كل من الكلمة والصورة.
بعيدا عن إثارة الجدال أو السجال بين الصورة والكلمة، وبعيدا عن محاولة فصلهما عن بعضهما بعضا في سياق التخصيص والتحجيم، تتبدّى الصورة كلمة معبرة أو ناقلة لسلسلة من الكلمات المنشودة أو التي تستبطنها، وفي المقابل تنقل الكلمة صورا لا محدودة من الأخيلة والمشاهد والتصورات، بحيث تتكامل مع بعضها بعضا لتؤدي الرسائل المنشودة بدورها.
______
*العرب