يوسف القبطي رسم وجهه في 99 لوحة


*شيرين أبو النجا

عادل عصـمت كاتب مصري مُغرم بكتابة التفاصيل، لكنّ كل كاتب هو بالتعريف مُغرم بالتفاصيل، ويكمن التحدي الأكبر في اختيار التفاصـيل، هل هي تفاصيل الوصف أم المكان أم الشخصية؟ وهل تضيف التفاصيل صفحات الى النص أم طبقات جديدة الى الشخصية؟ التفاصيل هي لعبة الكاتب، فهو إما يحافظ عليها ويبلورها لتلمع أمام عيني القارئ أو يلعب بها فيكسرها ويترك القارئ في حيرة من أمره. يعرف جيداً عادل عصمت كيف يحافظ علي تفاصيله وينتقي المنطقة التي ينسج منها كل تفصيلة، بحيث يصنع – من دون قصدية غالباً – سوى قصدية الموهبة – رابطاً نفسياً مع القارئ، او عقداً غير مكتوب، فيتشكل شعور جمعي مشترك يتنامى بهدوء بلا ضجيج، علاقة تشبه ما سماه إدوارد سعيد مجتمع التفسيرات.

ورغم أنه كان يشير إلى النقد إلا أن عصمت ينجح في إرساء هذه العلاقة الجمعية عبر تفاصيل المشاعر والتجربة. على سبيل المثل، في روايته «أيام النوافذ الزرقاء» (شرقيات، 2010) رسم الكاتب تفصيلة اختصرت -وكثفت وبلورت -شعور النوستالجيا للماضي بأكمله عبر تسليط الضوء على علبة شوكولاته ماكينتوش التي حولتها الجدة إلي علبة أدوات خياطة، وبظهور هذه العلبة اندمج القارئ تماماً في تفاصيل معتادة لاستخدام هذه العلبة، ما يثير لديه الشعور بالفقد.
ينغمس عادل عصمت في الشعور بالخوف في أحدث أعماله «حكايات يوسف تادرس» (كتب خان، 2015). من البراعة أن تكون الشخصية قبطية تعيش في مدينة طنطا الصغيرة مقارنة بالقاهرة أو الإسكندرية، وهو ما يسمح بتكثيف تفاصيل مشاعر تدهسها أي مدينة كبيرة. إنه الخوف في شكله المطلق المرعب، الخوف في كل تجريده وقسوته، الخوف الذي تولد لدى يوسف تادرس منذ الصغر إثر تجربة عادية في حياة أي طفل. تتولد مع هذا الخوف علاقة قوية بالأم فيكون موتها سبباً في مضاعفة الخوف، ثم تخلي الأب عنه وكذلك أخته الكبرى، لكنّ الأدهى والأمرّ هو قتل الخيال. فيوسف الذي نصحته منذ الصغر معلمة الرسم ماري لبيب دميان أن يتغلب على خوفه بالرسم يبرع في ذلك، ويتحول الرسم إلى الملاذ الأول والأخير حتى أنه يبدأ في رسم كل الوجوه في مشهد يذكرنا بعملية رسم وجوه الفيوم في مصر القديمة (مشهد رسمه عمر حازق، الكاتب والشاعر السكندري الذي يقبع في السجن الآن بتهمة التظاهر، تفصيلاً في روايته «لا أحب هذه المدينة» 2013).
يزداد الخوف عندما يبدأ تقنين الموهبة، فيقضي يوسف تادرس جزءاً كبيراً من حياته في محاولة اتباع قواعد الرسم ولا يبدو أنه ينجح تماماً طبقاً لآراء معلمه في قصر الثقافة، والذي يضمه في ما بعد الى جماعة «عنخ» التي تطرح بياناً عن الفن ولديها توجه أيديولوجي ما يُعيد إلى الأذهان تلك المجموعات الحلقية التي انتشرت في مصر في التسعينات من القرن الماضي. بهجره للرسم يواصل يوسف رحلة البحث عما يسد النقص، ما يؤدي إلى الاكتمال، أو بلغته يبحث عن النور الذي وجده مع الأم. في هذا البحث الذي لا يفضي إلى شيء، وليس المفروض أن يفضي إلي غاية (كبطل «قلب الليل» لنجيب محفوظ) يتشكل مسار الحياة في تجارب نسائية تبدو في كل مرة وكأنها الملاذ الأخير ليوسف.
لا يصل يوسف إلى غايته إلا بالعودة إلى الرسم، فيرسم الجانب الإنساني من الجمادات ويتفاعل مع الضوء والعتمة مؤسساً بذلك جماليات خاصة به وبرؤيته، لا علاقة لها بالتعاليم والقواعد المكتوبة. يصل يوسف إلى ذروة النور عندما يرسم وجهه في 99 لوحة، ليعيد صياغة حياته فيحل الفهم دفعة واحدة مُوقفاً رحلة البحث المضني. عند الوصول إلى لحظة الفهم، لحظة الرؤية، والتي تظهر في الجزء الأخير من الرواية يبدأ الحديث عن المستقبل، فيقيم يوسف معرضاً ويخطط للالتحاق بابنه الذي غادر البلاد، حتى المشاعر تعود الى مجرى البساطة المألوفة وتلتئم علاقته بزوجته جانيت وبولديه.
هي لحظة القبول، لحظة الاستكانة بعد الوصول، لحظة الفهم والرضا. وما بين لحظة الانطلاق ولحظة الوصول تتشكل الرحلة بكل منحنياتها ومصاعبها، تنصهر الروح في الوجع والانتظار وفقدان البوصلة والبحث. ولأن يوسف لم يتبع بوصلة الرسم، بل هجرها في بداية الطريق، بدت رحلته وكأنها بحث مضن عن جماليات الرسم حتى شكّلها دفعة واحدة. في الوقت ذاته، كأن فقدان البوصلة والوجهة هو ما أدى إلى استعادتهما في التسع والتسعين لوحة.
بدا لي غريباً بعض الشيء تشبيه بعض القراء رواية عادل عصمت برواية أوسكار وايلد «صورة دوريان غراي» التي كتبها عام 1890، وهو العقد الذي سادت فيه أفكار الفلسفة الجمالية ومن بعدها حركة الفن من أجل الفن. ربما دفعت الجماليات التي ظل يوسف تادرس يتأملها إلى إرساء هذا التشابه. لكن الأمر يبدو منطقياً أكثر إذا استدعت رواية عادل عصمت إلى الأذهان رواية «صورة الفنان في شبابه» للإرلندي جيمس جويس والتي كتبها عام 1916. فكما تمرّد ستيفان ديدالوس على مجتمعه الضيّق وأعلن رفضه الكامل لكل الجماليات والقواعد المكتوبة، تمرد يوسف تادرس ورفض كل الأعراف والقواعد، وكما رفض ديدالوس فكرة الولاء المطلق للمؤسسات ومنها الكنيسة فعل يوسف تادرس الشيء نفسه مع الاختلاف بالطبع في ما يتعلق بالسياق والشخصية. وكما اختار ديدالوس في نهاية الرحلة المنفى الطوعي اختار يوسف أن يهاجر إلى ابنه ميشيل في أميركا ليكون «مرتاح البال بعيداً عنكم، بعيداً عن الظلام الذي عشت فيه طول الوقت … بربك قل لي، متى سيطاول النور هذه البلاد؟» (252-253).
يطرح هذا الاقتباس مسألة تقنية السرد، حيث من الصعب القول إن السرد يتبنّى تقنية تيار الوعي، لكنه لا يقطع معها تماماً بخاصة حينما يتعلق الأمر بمحاولة الإمساك بكنه الجماد ليتأنسن في اللوحة، كما اتضح مثلاً في تجربة رسم الشال التي أدت إلى التسع وتسعين لوحة. و السرد في الرواية يتبنى ظاهراً الحوار (وإن كان الأفضل أن نسميه مونولوغاً) مع مستمع، ربما هو القارئ المضمر.
وفي كل الأحوال هي تقنية سرد تنهل من مصادر عدة تعتمد على وجود مستمع لا يمثل بوصفه شخصية في العمل، بقدر ما يتيح للسرد أن يتحول إلى استعادة أحداث مرّت فتأتي التجـــربة مكتملة، ما يمنح الكاتب حرية الاختصار والإضافة والإسهاب والتكثيف في التفاصيل. عادل عصمت هو سيد التفاصيل الكاشفة لمسار الروح في حياة لا تمهلنا فرصة التأمل الكافي للفهم.
______
*الحياة

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *