فوزية شويش السالم
كلمة غربة فقدت معناها، ولم يعد لها أي وجود في زماننا هذا وحياتنا التي باتت مشاركة عالمية بكل تفاصيلها، فكل ما نعيشه فيها أضحت شعوب العالم كله تعيشه مثلنا، ابتداء من المأكل والمشرب والملبس والعادات واللغة، حتى التفاصيل الصغيرة التافهة أصبحت متقاسمة بين شعوب العالم كله، وبهذه المشاركة تقاربت الشعوب بطباعها وعاداتها ونمط حياتها ومشاعرها، وبالتالي ذاب الإحساس بالغربة الناتج من الاختلافات في كل طرق الممارسات الحياتية بينها، ولم يعد يشعر الناس به حين يغادرون بلادهم وأمكنتهم، كما كانوا يشعرون في السابق بمجرد تركهم لها.
المعنى اختلف تماماً الآن، فمن بعد هذه العولمة التي اخترقت حياتهم وجعلت العالم كله قرية صغيرة ترتدي “يونيفورم” موحداً، وتتعايش بأسلوب متشابه في مأكلها ومشربها وملبسها ولغتها، وما تحبه وما تكرهه، وما تحلم به من مستقبل يصب في خانته الموحدة أيضاً، وبهذا انتفت غربة الأماكن وغربة الاختلاف في السلوك والمعيشة، باختفاء الاختلافات بشكل كبير، وبات التجانس واضحاً في أغلب بلدان العالم ما عدا النائية والمقطوعة، عدا ذلك بات العالم كله يأكل البيتزا الإيطالية، والنودلز الصينية، وبرغر ماكدونالدز وكنتاكي وفرايديز الأميركية، والفلافل والحمص والفول والتبولة اللبنانية، والفاهيتا المكسيكية، وطبق باييلا الإسباني، والسوشي والساشمي الياباني، والكباب الإيراني، وخبز الشاباتي الهندي… إلخ.
وباتت المشروبات علامة عالمية مثل الكوكولا والبيبسي، وباقي القائمة كلها، وأصبحت المقاهي ذات العلامات التجارية المشهورة مثل ستاربوكس وكوستا وكاريبو وغيرها تكاد تقضي على المقاهي المحلية بسبب الإقبال الشديد عليها، وكذلك توحد العالم في طريقة لبسه، فمن ماركة نايكي وأديداس إلى الجينز الممزق الذي اخترق الكرة الأرضية بطولها وعرضها ليصبح اللباس الوطني لشباب العالم.
العالم كله وحدته شفرات وصابون الحلاقة ومعجون الأسنان، ماركات بذاتها يستخدمها الجميع ابتداء من حليب وحفاضات الأطفال وصولاً إلى كل ما يخص الكبار من الجنسين، ولم يعد هناك أي اختلافات في طرق اللباس أو الشراب أو الأكل، حتى العادات والسلوك، فأغلبية الشباب نقشت “التاتو” أي الوشم على أجسادهم، وأصبحوا يمارسون الرياضات ذاتها والرقصات اللاتينية والزمبا والرقص العربي في الغرب، ويستمعون إلى الموسيقى نفسها، ويغنون الأغنيات عينها، حتى وإن لم يفهموها، مثل صاعقة “جنغام ستايل”، حتى الأعياد باتت موحدة، فالعالم كله يحتفل برأس السنة الميلادية حتى لو لم تكن سنته، والكل يحتفل في عيد الحب والكريسماس والهلاوين، حتى وإن لم تكن من عاداته.
أسواق ومولات نقلت بأكملها إلى مدن الخليج والمدن العربية وغيرها، وعلى سبيل المثال بات شارع أكسفورد الإنكليزي بكل متاجره موجوداً فيها، وأصبحت مدن الخليج وغيرها مماثلة لمناهاتن النيويوركية وناطحات سنغافورة بالطراز المعماري المتشابه فيها، فزمن العولمة ألغى كل الاختلافات، ووحد العادات والطباع والسلوك في شخصية “العولمي” الجديد، حتى بتنا نسخاً متشابهة مكررة خارجة من مكنة العولمة التي يسيطر عليها ويديرها بحسب عاداته وتقاليده وصفاته المعدة والمعدلة والمصممة والمرسومة بإدارة وسيطرة الشبكة العنكبوتية لعالم الإنترنت العالمي. وبات شباب العالم مثل بعضهم، لا يختلف الأميركي عن الصيني أو الياباني أو العربي أو الأوربي… إلخ، هناك نسخة واحدة متماثلة في المأكل والملبس ولغة الشات وأسلوب الحياة والطباع وحتى الأحلام المستقبلية.
هذا التجانس والتماثل والتقارب في كل تفاصيل الحياة المعاشة لدى مختلف الشعوب، أدى إلى محو مفهوم الغربة الذي كان يصاحب المهاجرين أو المسافرين بعيداً عن ديارهم وعاداتهم وتقاليدهم وخصوصية بلادهم التي كانوا يفتقدونها حين يبتعدون أو يغيبون عنها، العولمة قضت على هذه المشاعر من بعد ما غرزت البديل العالمي الذي حل مكانها لدى كل شباب هذي الشعوب، وباتوا ينتمون إليها بمشاعرهم وطباعهم وسلوكياتهم، وباتت زجاجة الكولا أو البيبسي مثلاً رمزاً يوحد المشاعر المختلفة لشباب العالم، وبمجرد ظهورها ووجودها في أي مكان، تعني أنها جزء من خصوصيتي ومن ذاكرتي ومن عالمي، حتى وإن لم تكن كذلك، لكنها وبفضل العولمة باتت كذلك، شيء صغير أن توجد في أي مكان محي معنى الغربة فيه، الغربة توجد فقط حين لا نجد ما نحبه، وما نعرفه في بلادنا غير موجود في البلدان التي اغتربنا بها، وحين نجده تمحى أسباب غربتنا.
الجريدة