علي مصباح
ما نعيشه اليوم، في تونس كما في مصر وفي بقية البلدان العربية، قد لا يكون ربيعا بالمعنى الذي نريده من الربيع، لكنه شيء آخر غير خريف. هناك قوة متفجرة من صلب الواقع، من صلب صيرورة الحياة. هناك طاقة (لنسمها إرادة الحياة، أو إرادة القوة) ظلت مكبوتة لقرون من الزمن تنفجر اليوم وتنشد الرغبة في حياة أفضل. اندفاع جارف، عات: فوضوي بالتالي، لأن ليس له من أطر تحتضنه وتنظمه، وما من فكر يؤطره. الغائب الأكبر في هذه الحركة العفوية إذن هو الفكر الواعي الحاضن والمؤطر.
ربما ذلك هو ما يجعل هذه الحركة تبدو وكأنها تقف في العراء، لكن الأكيد أن أول من يقف في العراء اليوم هو المثقف العربي الذي يجد نفسه مغتربا عن واقعه ومحيطه. مثقف وليد نماذج فكرية (وسلوكية) مستوردة (من الماضي أو من الخارج- والخارج نفسه ماض) وليس وليد التطور الطبيعي للواقع الذي احتضن نشأته.
القطيعة التي طرأت على مسار الفكر العربي المتناسق منذ ما لا يقل عن سبعة قرون مازالت هي السمة الأساسية للثقافة العربية بالرغم من محاولات الرتق التي عرفتها محاولات “النهضة”: صحوة الذعر ومحاولات الإصلاح التي عرفها النصف الثاني من القرن التاسع عشر، و”انتفاضة” النصف الأول من القرن العشرين. فكان أن نشأت لدينا أجيال من تقنيي المعرفة وتقنيي الثقافة ولم ينشأ فكر مبدع ومسار فكري مستقل أو نازع إلى الاستقلال بذاته كنظام فكري ومشروع ثقافي متناسق. وإذا نحن أمام “مثقف” مربَك سجين الارتجال والمواقف المتناقضة حتى مع ما يُفترض أن يكون هويته كمثقف. مرة يعلن مبايعته للاستبداد باسم الحداثة، ومرة ينحو إلى النكوص باسم الأصالة، ومرة يندفع لاهثا وراء الانتفاضات العفوية مشتعلا بلهب الحدث في حين كان من المفترض أن يكون الغرفة المخبرية الباردة –لا من أجل إطفاء حرائق الحدث، بل لمعالجته في مأمن من توقد الحماسة واندفاعية الانفعال.
أمام المثقف المربك والفكر الارتجالي اليوم خياران: إما الانكفاء والاستدارة عن حرائق التاريخ ومناشدة برّ أمان متوهّم في الاستقرار والركود: أن يختم بالشمع الأحمر على استقالته التاريخية؛ أو الانخراط في عملية مراجعة عميقة للنفس وتفكر جدي في نوعية ما يحدث وفي الأفق الذي يطمح إليه هذا المسار. أن يعكف عكوف التلميذ المجتهد الصبور والمتواضع على قراءة الحدث، وأن يجتهد في تمثل دوافعه وأبعاده ومراميه.
كل من يدعي أنه مثقف أو مفكر ويستدير اليوم عن مدرسة الأحداث بدعوى تعالي منظومته الفكرية على هرجها، أو ترفعا على ما يمكن أن يبدو له دون انتظارات أفكاره المجردة (من حرية وحداثة وتقدمية)، سيحكم على نفسه بمزيد من العزلة والاندحار إلى موقع الهامش من المسيرة التاريخية التي أفرزها التطور الموضوعي للواقع وتنافضاته دون انتظار إشارة أو إذن من المفكر المستقيل
– كاتب تونسي يعيش في المانيا