منصف الوهايبي *
( ثقافات )
“لقد عاش هؤلاء الناس، على الأقل يوما وفقا لقلوبهم”
أندريه مالرو في كتابه “الأمل” وهو يتحدث عن ملحمة مدريد في الثلاثينات
***
تروي أسطورة صينية أنّ رساّما عمد بعد أن استكمل لوحته الجداريّة، الى فتح باب صغير فيها. ثمّ دخل منه، وأغلق على نفسه. ومنذ ذلك اليوم، إمّحى الباب وزال أثره، واختفى الرسام الى الأبد.
***
هل من الأخلاق أن يُدرّب بعض قادة النهضة، أتباعَهم ومريديهم، على إشاعة الخوف من حزب مثل نداء تونس خاصّة، فالاتحاد العام التونسي للشغل، فالجبهة الشعبيّة، وعلى شيطنة الخصوم وتكفيرهم؟ ثمّ يمنحون بعض هؤلاء الخصوم”صكّ براءة” لا لشيء، سوى المناورة،عسى أن يُصيبوا منهم غرّة؛ للإيقاع بهم وإزاحتهم عن طريقهم بذريعة أنّ رجل السياسة يُداجي ولا يُصارح، ويضمر ولا يظهر؟
ألا ينتبه قادة النهضة إلى أنّهم، بهذا الصنيع(عقليّة الملاك والشيطان)،يحوّلون أنصارهم والدائرين في فلكهم، إلى “جـِراء صغيرة” تسعى في جلبة خلف الفتات والكُسارة والسُّقاطة، أو هي تلعق البقايا؛ ثم تمشي وهي تشيل أذنابها أو تعوي عواء القطط الحائلة، وهي تبشّرنا مثلهم بالديمقراطية على النمط “الإخواني”: أي إجراء انتخابات في ظلّ حكومة “نهضويّة” تتحكّم في مفاصل الدولة(الإدارة والأمن والقضاء والمساجد)؟ ثمّ يزعم زعيم النهضة ورئيس الحكومة ـ وهما الخصمُ والحَكَمُ ـ أنّهما سيوفّران الضمانات الكافية لإجراء انتخابات نزيهة شفّافة؟ أَما آنَ لهم أن يدركوا أنْ لا أحدَ في أغلبيّة التونسيّين، يرتضي لنفسه بعد “ثورة 17/14” أن يكون ممسحة لأقدامهم الموضوعة على عتبة البيت التونسي حيث يريد “إخواننا التونسيّون” توليد الديمقراطيّة ولادة قيصريّة؟
لماذا لا يتحلى “إخواننا” بالجرأة ذاتها اللازمة في مثل هذه القضايا، كما يفعلون عادة في قضايا “دينيّة” كثيرا ما يقع تضخيمها لاسباب لم تعد خافية على أحد؟ وهل هم من قلة الوعي بما يتهدّدنا جميعا من ابتزاز سياسي واقتصادي، وتفتيت دينيّ، وما الى ذلك من الأطماع التاريخية، وصراع الاستراتيجيات الدولية التي تسعى كلها الى مقايضة قضاياها الخاصة في النهب والاستعمار، بقضايانا الوطنية من خلال أغطية إيديولوجية تحاول أن تخفي بها حقيقة سلوكها؟
أليس السؤال المطروح علينا جميعا هو: كيف نتعامل مع هذا الواقع التونسي المستجدّ في كليته تعاملا نقديا يضمن له انسجامه ونسبيته؟
***
أمّا وقد بدأ قليل أو كثير من الغبار السياسي، في مصر وتونس، ينقشع؛ بعد انحسار موجة المظاهرات الحاشدة التي شهدتها القاهرة منذ اعتصام رابعة، وتواصل اعتصام الرحيل في تونس هذا السبت في هبّة جماهيريّة أخرى؛ حيث يعيش التونسيّون” وفقا لقلوبهم”، فقد صار للمحلّل الرصين، من صفاء الذهن وجلاء الرؤية ما يجعله ينظر إلى قضايا بناء الديمقراطيّة عندنا في وحدتها وشمولها.
ومع أنّ التونسيّين أو أغلبيّتهم كانوا ـ قبل”ثورة 17/14″ ضحية تعتيم سياسي،وكانوا يجهلون تقريبا كلّ شيء عن أجيال المناضلين بشتّى أصنافهم(ماركسيّون وقوميّون
ّ
إسلاميّون وحقوقيون)ولم يكن بإمكانهم أن يميّزوا الفروق الدقيقة والظلال الخفيّة ،بين طالب حريّة وديمقراطيّة، وطالب حكم ونفوذ؛ وراعي أوهام إيديولوجيّة، فقد راعهم(أو قسما كبيرا منهم) تشبّث”الإخوان” عندنا بتلابيب السلطة على نحو مرَضيّ(بفتح الراء) حتى أنّ الخوف من فقدانها، تحوّل عندهم إلى فوبيا ؛رغم إخفاقهم إخفاقا تامّا في إدارة شؤوننا وخلافاتنا، لقلّة درايتهم وضيق أفقهم.
و
وأنا أستطرد هاهنا قليلا،لأشير إلى أنّي أميلُ إلى استخدام هذا المصطلح أو الاسم”الإخوان”(أو”الإخوانجيّة” بالعاميّة، وهي تسمية لا تتنقّصهم إذ يتقبّلها أصحاب الظاهرة أنفسهم)؛ فهذا أدلّ على هذه “الأصوليّة الإسلاميّة” التي تكاد لا تختلف من حيث ثوابتها عمّا هو معروف عن” المنظمة العالميّة المتحدة للإنجيليّين الأصوليّين” التي نشأت عام1919 أي قبل نشوء حركة الإخوان بسنوات قليلة. وهذه الثوابت لا تعدو التصديق الأعمى بحرفيّة الكتاب المقدّس، ورفض العلم الحديث، طالما تعارض مع الإيمان على نحو ما هو موصوف في الكتاب المقدّس، وتكفير كلّ مسيحي لا يعتقد في هذه الأصول، والسعي إلى إعادة إقحام الكنيسة في شؤون الدولة، وبخاصّة كلّما اتخذت الدولة قرارا يتعارض ـ من منظور أصوليّ ـ مع أحد الثوابت الدينيّة. ويكفي أن نستبدل بهذه المصطلحات المسيحيّة، مصطلحات إسلاميّة، لنقف على أنّ الأصوليّة هي ذاتها من حيث عداؤها المستحكم لكلّ نفـَس تحرّري،حتى داخل المنظومة الدينيّة،ورفضُها للتطوّر والحداثة، والمنهج النقدي التاريخي في تفسير النصوص. أي أنّ همّها ومسعاها تأسيس المجتمع على شعارات العقيدة أوعلى “النصّ” دون تأويله أو إعمال العقل فيه، إلاّ بما يخدم مصلحتهم في الاستئثار بالحكم. ولهذا وغيره يقول كثير من التونسيّين ـ وهم على حق ـ إنّ الإخوانجيّة “براينيّة عنّا”، هيئة وسلوكا ولكنة، فلا نحن نشبههم ولا هم يشبهوننا..
***
كثيرا ما نقرأ هنا أو هناك أن التعارض بين السياسة والأخلاق قائم في أكثر من مستوى. وهو على ما يبدو تعارض شائخ كاذب طال أكثر من اللازم وإن كان له ما يبرّره أو يسوّغه. فقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين خاصة من التغيّرات والانقلابات في حقول العلم والمعرفة وفي الأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية، ما جعل الفجوة بين السلوك وأنساق القيم تتّسع، وتعبّر تعبيرا صريحا أو مضمرا عن شك عميق في فاعلية القيم المتوارثة وفي جدواها. وذلك بدءا بنهاية عصور الاستعمار القديم وثورة الزنوج والطلبة والنساء على كل أشكال السطوة والتسلّط… فسقوط المعسكر الشرقي وحلول مرحلة جديدة من الإمبريالية أو الكولونياليّة، وارتفاع الأصوات المنادية بالحرية والديمقراطية، وسيادة التفكير العلمي العقلاني، برغم أنّ التفكير الغيبي لا يزال يحتفظ بقدر غير يسير من سطوته وفتنته على نحو ما نلاحظ في سائر البلاد الإسلاميّة. وهذا وغيره مما لا يتّسع المجال لذكره، إنما يذكي الحاجة إلى قيام نسق من القيم الجديدة، حتى لا تكون “نهاية التاريخ” المزعومة نهاية الأخلاق، على نحو ما نرى في خضمّ هذه الحروب التي تُشنّ هنا أو هناك، بذرائع مختلفة، وانكشاف أكاذيب صنّاع القرار في الغرب. مع العلم أن ظاهرة الحرب لا توجد في مملكة الحيوان إلاّ عند بعض أنواع النمل والفئران. فهي اختراع الانسان ذئب الانسان.
صحيح أنّ القيم ـ كما يقول زملاؤنا الفلاسفة ـ لا تنشأ بفعل الإرادة الذاتية الواعية، وأنه من السذاجة أن نأخذ بذلك التصور الذي كان يأخذ به القدامى في اعتقادهم أن الناس على دين ملوكهم، بحيث نتوهّم أن مشكلة مجتمعاتنا في سلوك الحاكم الأخلاقي وليست في نوع الحكم القائم، أي في التنظيم السياسي حيث يسري القانون على الجميع من هرم السلطة إلى رجل الشارع. فالأخلاق، فيما يُفترض، مُدمجة في العادات والأعراف والتقاليد. وهي بمثابة “مستودع” تستمدّ منه السياسة أفكارها. من ذلك أن العدالة والمساواة والحرية والإخاء كلها قيم أخلاقية، ولكن يُفترض فيها، عندما تنتقل إلى السياسة، أن تتحول إلى قوانين ملزِمة.
***
نحن التونسِيِّينَ نقصّر في حق وطننا، إذا قلنا إنّه وطننا فحسب. فهذا كما كتب سارتر تعبير غائم. فالوطن، هو بالأحرى حظنا ونصيبنا. أما الذين ينشدون شمولية صورية لمآرب خاصة بهم، وأخطرها توظيف الدين، وضحك “أصحاب الذقون” على الذقون، لتأبيد السلطة؛ وقد أرعبهم انهيار المشروع”الإخواني” في مصر، فلهم كامل الحرية في أن ينقروا بابا صغيرا في هذه “الشرعيّة” التي فقدتْ شرعيّتها منذ أكتوبر 2012 وأن يدخلوا منه كما دخل رسّام الاسطورة الصيني في لوحته.
………………
ـ توضيح:ذكرت في مقالي المنشور يوم13أوت2013″هل تحوّل الندم إلى كراهيّة” بعض أسماء قادة الترويكا، ومنهم”الكحلاوي”. وقد اتصل بي السيّد عبدالله الكحلاوي المستشار السياسي السابق لرئيس الجمهوريّة المؤقّت،وهو صديق قديم وزميل دراسة،للاستفسار عن الشخص المقصود؛ فبيّنت له أنّ المقصود هو السيد طارق الكحلاوي. وهذا لا يخفى عن أيّ متابع للشأن التونسي الراهن
* شاعر وأكاديمي من تونس