شافعي سلامة
أدب الرحلات العربي كما يجب أو كأروع ما يكون» هذا هو الانطباع الذي يتكون لدى من يطالع صفحات كتاب «تسكع على الخريطة» للرحالة الكويتي عبد الكريم الشطي. وأدب الرحلات (أو السفرنامة) ابتداء هو ذلك الدرب من الكتابة الذي يسجل المؤلف من خلاله مشاهداته خلال سفره إلى واحد أو أكثر من البلدان والأحداث التي مر بها خلال هذه السفرة. في هذا المؤلف الرائع الذي يأتي في 164 صفحة من القطع الصغير بالألوان يوثق الكاتب المبدع لسفراته إلى 5 أماكن في أصقاع مختلفة من العالم وهي على التوالي كوستاريكا وإيبيزا وبيرو وكومبوستيلا وأخيرا رومانيا. تلك الأسفار التي يقول عنها في كتابه إنها «أوقدت شموعا في زوايا مظلمة من عقله وفتحت أدراجا وأبوابا يعلوها الغبار» من أجل مزيد من المعرفة. كما أنها كانت أيضا تجربة إنسانية تمكن من خلالها من الغوص في أعماق الإنسان بعيدا عن صخب التقنيات الحديثة وتعقيداتها.
وسيطرت على الكاتب بدءا من الإهداء إلى روح البدوي المغامر الرحالة الذي لا يستقر في موضع ولا يحده مكان ولا يقيده سياق جغرافي محدود، فقد أهدى كتابه إلى «أبناء الهاربين من «مأرب» الذين كتب الله عليهم أن يكونوا بدوا يملأون الفيافي والفراغات، إلى أبناء إسماعيل، إسماعيل الذي بدأ حياته بمغامرة قاحلة غير ذات زرع مغامرة ولدت أمة من البدو المغامرين بأجسادهم وبأرواحهم.”
سرعان ما انتقل عبد الكريم الشطي كسرعته في التنقل خلال أسفاره إلى الحديث عن سفره إلى أحد شواطئ كوستاريكا والذي وصل إليه سيرا عبر الأدغال، وبين في صفحات الفصل الأول من الكتاب كيف كانت إقامته ومبيته على قطعة من القماش استأجرها مدة ثلاث ليال وكيف أنهى إجراءات الـ check in في الفندق الخيالي على الشاطئ بلا أي أوراق ثبوتية بل باسمه الأول فقط يحدثنا خلال هذا الفصل عن إقامته مع عائلة في كوستاريكا وكيف تعلم من هذه التجربة الكثير حيث لاحظ إدمان هذا الشعب على الأرز، كما تعمق في تأمل الاختلافات بين البشر والشعوب وثقافاتهم عندما رأى أما تنهر ابنها وتغضب منه بشدة لأنه لا يستطيع الرقص ويستحيي أن يذهب لتعلمه.
في الفصل الثاني من الكتاب الشائق يحدثنا الشطي عن جزيرة إيبيزا وأسرار لعنتها الشهيرة في تفريق العاشقين، وعن تجواله في هذه الجزيرة طاغية الجمال ذات الشواطئ الرقراقة بصحبة موريسو الشيف الإيطالي الذي هرب من إيطاليا بتهمة سرقة السيارات وبيع قطع غيارها وله هواية غريبة تتمثل في التفنن في تذوق المخدرات. يحدثنا عن «النفس العربي الواضحة (في الجزيرة) حتى تكاد حجارتها تصافحك بالعربية» حتى يشبهها بسبب ما تموج به من حركة الناس وتعاملاتهم بـ «قدر مغلق يبدو هادئا من الخارج لكنه يغلي من الداخل». في نهاية السفرة إلى جزيرة اللعنة الشهيرة يدرك أن «التفاعلات الكيميائية الخطيرة التي تجري على أرض إيبيزا من شأنها أن تفرق العاشقين».
جولة الفصل الثالث كانت في الماتشو بيشو في دولة البيرو. يحكي لنا الشطي عن سفرته إلى هذه الدولة النائية في أميركا اللاتينية مرورا بكولومبيا في «موعد مع الشمس». يسرد الكاتب خلال هذا الفصل معلومات تاريخية مهمة وأحداثا شائقة مرت بها دول المنطقة كولومبيا والبيرو وتشيلي، كما تنطوي سطوره على حوارات تدل على ثقافته الواسعة وما يحمله من أفكار رائعة وفلسفة حياتية عميقة.
يواصل الشطي في الفصل الرابع «الحج إلى إسبانيا» لإمتاع قرائه بسرد حقائق ومعلومات تصطبغ بالصبغة التاريخية الممتعة، حيث نتعرف على القديس يعقوب العظيم أو جورجيوس أو سان دييغو وكيف تغير اسمه مع انتقاله من مكان إلى مكان ومن لغة إلى أخرى وما قصته وكيف جرى دفنه منذ قرابة الألفي عام بناء على رغبة الإمبراطور الروماني في «آخر نقطة من العالم» كومبوستيلا أو «حقل النجوم». نتأمل من خلال هذا الفصل كذلك فلسفة الحج في الديانات المختلفة.
نتعرف مع الكاتب في آخر فصول كتابه «مطاردة الغجر» على غجر رومانيا وثقافتهم وتاريخهم ونتابع بمتعة حكاياته مع الغجر وكيف تعلم الكلمات الأساسية في اللغة الغجرية مقابل 15 يورو بعد مساومة. نتابع كذلك زيارته إلى قصر باشا الغجر بعد «كذبه» وادعائه أنه ابن باشا الغجر في سورية وكيف عرضت عليه الجدة الغجرية شراء فساتين بأسعار مبالغ فيها ولكنه رفض، وكيف تعمق معهم في الحديث عن مشروع إنشاء أول فندق غجري في العالم بكلفة مليون يورو فقط
أدرك الشطي من خلال هذه السفرة كيف أن الغجر المتنقلين أصبحوا نادري الوجود في رومانيا، والأهم من ذلك من الناحية الفلسفية أنه خرج بمفهوم جديد عن جدوى العمل لمصلحة الآخرين أو ما قال إنه نظرية بيع الحياة، وكيف قرر بعدها ألا يبيع حياته لأحد وأن يفعل في حياته فقط ما يريده ربه، ثم ما يريده هو وما ينفع البشر ويحسن من مستوى العالم.
الأنباء الكويتية