أدب غوانتانامو و «داعش»


*عبده وازن

في الكتاب الجماعي «كتّاب في السجن»، الذي أشرف عليه نادي الكتّاب العالميين (بان كلوب)، لا يمثل سوى روائي أميركي واحد هو داشيال هاميت، أحد رواد الرواية البوليسية العالمية. وهو لم يسجن سوى بضعة أسابيع خلال الحملة «الماكارثية» الشهيرة في مطلع الخمسينات المنصرمة، التي طاردت الكتّاب والفنانين الأميركيين المعادين للنظام وذوي الميول الشيوعية. كاتب أميركي واحد أوردت له المختارات رسالتين كتبهما الى ابنته جوزفين. وهذا يعني أن الولايات المتحدة لا تسجن كتّابها إلا نادراً، على خلاف دول عدة كالاتحاد السوفياتي سابقاً، والصين، وأوروبا الشرقية الاشتراكية، وإسبانيا الديكتاتورية، وتركيا، وإسرائيل التي ما برحت تسجن الكتاب الفلسطينيين، علاوة على رفعها سجن الجدار الذي يأسر شعباً برمته.

لكنّ أدب السجون في أميركا هو من أكثر الآداب الشعبية رواجاً. لا تسجن أميركا «الديموقراطية» كتّابها وفنانيها، لكنها تملك سجوناً شديدة الرعب، قاتمة ورهيبة لطالما شحذت مخيلات الروائيين والسينمائيين. ولعلّها تمكنت من منافسة الأنظمة الديكتاتورية في اختراع أشدّ طرائق التعذيب فتكاً وشناعة. كتاب «يوميات غوانتانامو» يفضح العنف الأميركي الذي يمارسه الجنود على السجناء المتّهمين بـ «الإرهاب» والأصولية، والذي بلغ في هذا السجن، ذروته اللاإنسانية بل الحيوانية. كتب السجين الموريتاني المهندس محمدو ولد صلاحي، هذه اليوميات تحت أعين الرقابة في السجن ورغماً عن جهاز الاستخبارات، لكنّ المقص أو قلم الرقيب كان يرصده كما يرصد صياد عصفوراً صغيراً. وترسيخاً لقيم الحرية والعدالة الأميركيتين، سمحت الاستخبارات للكاتب السجين أن ينشر يومياته، ولكن مع الأسطر والمقاطع التي «شطبها» قلم الرقيب النافر حجماً وسواداً. هذا المهندس الذي رُمي في السجن نتيجة تهمة إرهابية كيلت له وهو كما عبّر، براء منها، أصرّ على أن يكتب لا ليواجه رهبة السجن والتعذيب كما يفعل الأدباء عادة، بل ليقدّم صورة ولو «مقصوصة» عن مكان هو أشبه بجحيم أرضي، تضمحل الحياة على عتبته وتنهض الكوابيس داخل جدرانه.
قد تبدو سجون الأنظمة الديكتاتورية ومنها النظام السوري، أرحم من سجن غوانتانامو. في السجون الديكتاتورية تلك، يظلّ الأسير من الأهل ومن أبناء الجلدة والأرض مهما عصى و «خان»، أما في غوانتانامو فالأسير هو العدو، العدو الغاشم الذي ساهم في إسقاط برجي التجارة في قلب نيويورك. وعلى السجان الأميركي أن يجعله يبصر بعينيه كيف يكون العنف، وكيف يكون الانتقام، وكيف يمكن أن ينفجر اللاوعي الغرائزي والحيواني غضباً وكراهية وبطشاً.
قد لا يضاهي سجن غوانتانامو سوى السجون الموقتة التي يقيمها أبطال «داعش» في الهواء الطلق، ويأسرون فيها رجالاً هم مسلمون غالباً ولكن ضالون وفاسدون ومفسدون… سجناء «داعش» لا يطيلون الإقامة وراء القضبان، العقوبة يجب أن تنزل بهم سريعاً، ذبحاً أو تقطيعاً أو حرقاً. وأبشع طرق الإعدام هي الحرق داخل ما يشبه القفص في الهواء الطلق وعلى مرأى الجميع. لكنّ «داعش» أخذ فكرة الملابس البرتقالية للسجناء من سجن غوانتانامو. لماذا اللون البرتقالي؟ لا أحد يعلم، ربما.
تتشابه السجون عادة بين بلاد وأخرى، بين نظام ونظام، وغالباً ما تشبه نصوص السجن بعضها بعضاً، وكذلك السجانون والسجناء و «طقوس» السجن… لكنّ سجن غوانتانامو وسجون «داعش» وحدها تختلف في أجوائها وطقوسها وسجانيها وعنفها ولا إنسانيتها… لكنّ أمراً واحداً يفرّق بينها، هو أن سجين «داعش» يقضي وراء القضبان أقل وقت ممكن. النار والذبح لا يؤخرهما سبب أياً يكن.
قد يكون كتاب «يوميات غوانتانامو» أهم رواية أميركية كتبها موريتاني عن أبشع سجن أميركي، هو أيضاً، الأبشع عالمياً.
_________
*الحياة

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *