*عبد الرحيم التوراني
خاص- ( ثقافات )
وهو يطوف ببيت الله، يؤدي شعائر الحج، إذ به يلمح من بين الزحام خيالا أفزعه وأخرجه من خشوعه وتعبده. أحنى رأسه ومشى مسرعا كأنه لم ير، استمر في ترديد التلبية:
– لبيك اللهم لبيك… اللهم لبيك….
سيتكرر المشهد مرات أخرى، مرور نفس الخيال من أمامه، خيال غير مرغوب فيه، خاصة أنه يذكره بذنبه ومعصيته للإله. يحني رأسه، يلعن في سره الشيطان الرجيم، ويطلب من الله مغفرة ما تقدم وما تأخر من ذنوبه.
وهو ينحني ليقبل الحجر الأسود تراءت له صورة رهيبة مرتبطة بنفس الخيال المزعج، رفع رأسه بفزع مرتعبا لاعنا الرجيم اللعين، طالبا من الله الرحمة والغفران.
لم يستطع أن يطرد الخيال اللعين من رأسه، راوده شك في أن يكون ما يرى حقيقة، قال محدثا نفسه:
– لعلها حكمة الإله، الله يريدني فقط أن أتذكر ذنوبي كي لا أكررها.
يصمت ويعاوده الشك من جديد:
– ولكنها هي.. أستطيع تمييزها من بين المئات، بل من بين الآلاف..
ثم يقف غاضبا متسائلا:
– لكن.. ماذا تريد مني هذه المصيبة…؟؟
يهدأ قليلا، يستغفر الإله. يؤنب نفسه:
– ما كان علي أن أسيء الظن بحجاج بيت الله، كل ضيوف الرحمان هم سواسية، لعلها جاءت لتغتسل من ذنوبها. كما هو جاء لنفس الغرض، الجميع هنا هم كذلك، من كان منهم بلا ذنب أو معصية فليرم الآخرين بحجر…
يعود إلى النوم ليستيقظ في الغد مبكرا، حيث سيهزم الشيطان وينتصر عليه، لن يقدر الشيطان على وسوسته من جديد، أو استمالته لمعصية الرب. تذكر كلام الشيخ الفقيه السي دحان في مسجد درب السلطان بالدار البيضاء، حين قال لفوج من الحجاج قبيل السفر إلى مكة:
– إنكم حينما تأتون لرجم الشيطان فأنتم في الواقع تريدون أن تسدوا عليه المداخل التي يدخل منها إلى أنفسكم…
وتذكر الأيام البعيدة التي كان فيها حارس مرمى نادي فريق المؤسسة ضمن البطولة المهنية لكرة القدم . كان يسد المنافذ على أشرس المهاجمين وأدهاهم، بصعوبة كانوا يسجلون عليه، خاصة من نقطة ركلة الجزاء.
وقف الحارس العملاق وسط باب الغرفة، أفرد ذراعيه كجناحي صقر، وصاح بصوت عال:
– هيت لك.. لن تهزم شباكي يا شيطان.. يا لعين.. يا رجيم.. هيا…
وهو يهم بالقيام بمَنْسَك رمي الجمرات، شاهدها عن بعد، ضحك لوحده، قال ساخرا مما رأت عيناه:
…؟ – كيف للشيطان أن يرجم نفسه
ثم ما لبث أن تراجع بسرعة لاعنا الشيطان، مستغفرا، متوجسا:
– أعوذ بالله… أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اللهم العنه واخزه، اللهم العنه دنيا وآخرة… استغفرك يا الله..، استغفرك يا الله…
اننهت شعائر الحج، وبدأ الحجيج فى توديع بعضهم البعض، قبل مغادرة مكة ليقوموا بطواف الوداع، ونزل مع النازلين إلى الأسواق، راغبا في اقتناء بعض الهدايا للأهل وللصغار منهم أيضا. دخل محلا تجاريا للعب الأطفال، وبينما هو يتناول لعبة، يقلب جودتها بيد متفحصة، إذا بيد تربت على كتفه:
– حج مبرور يا حاج .. وسعي مشكور وذنب مغفور…
رفع عينين تؤطرهما نظارة شمسية صينية الصنع من نوع “ري بان”، ليفاجأ بها، هي التي ظلت تطارده طيلة أيام حجه، وظل هو يتهرب من مواجهتها، هي بدلالها الوارف تقف كنخلة عند رأسه تبارك له الحج.
وقف، والعرق يتصبب منه، بادلها التحية بأحسن منها، ولم يعرف ما يضيفه بعد نفاد العبارات الجاهزة التي يملك، لم تسعفه الذاكرة بأي جملة أخرى مناسبة، واستغلق الكلامُ عليه.
لم تنقذه إلا كلمات المرأة الطويلة أمامه تسأله:
– لكن قل يا السي حسن.. عفوا.. يا حاج حسن
ايتسمت حتى ظهرت أسنانها ورأى نابها الأيسر الذي من ذهب…
رد مرتعبا:
– نعم يا حاجة للا.. للا سوسو
ضحكت سوسو هذه المرة، واسترسلت في ضحكة متصابية لا تليق بعمرها ولا بامرأة حاجة ولا بالمكان.
أحس الحاج بحرج كبير، حرك عينيه ورأسه في جميع الاتجاهات، اعتذر عن مناداتها باسم الدلع، وكان عذره معه، فهو لا يعرف اسما آخر لها غيره. قبلت اعتذاره..
– معليهش يا حاج حسن، ناديني باسمي: للا سميرة، الحاجة سميرة..
– نعم للا الحاجة سميرة
وبغنج تمايلت الحاجة سميرة، سألت الحاج حسن:
– فين غيابك، صار لينا مدة ما شفناك.. حتى والله توحشناك بزاف…
تعرق الحاج حسن أكثر من الأول، اضطرب وارتعدت فصائله، لعن الشيطان في سره واستغفر الله وأكثر من الحوقلة..حتى نسي من أمامه..
– لا إله إلا الله، لا حول ولا قوة إلا بالله
أعادته الحاجة من سهوه بضحكة رنانة:
– آه.. نسيت.. أنك تجهل عنواننا الجديد، ألم أخبرك أننا انتقلنا من درب بوشنتوف.. ؟
وأخرجت من بين صدرها بطاقة زيارة، مدتها إليه وهي تبتسم، نفس البسمة التي جذبته ذات نهار .
– خذ يا حاج هذه البطاقة تجد عليها عنواننا الجديد بحي بوركون…
مد الحاج يدا مرتعشة إلى البطاقة الصغيرة شاكرا.
دنت سميرة من حسن وهمست في أذنه بغنج ودلال:
– تعال.. ستجد ما تحب وترضى، لدينا العشرينيات وما دون السبعتاش والثمنتاش، و لدينا الفاسيات والشماليات والعروبيات والوجديات.. وحتى الصحراويات، تعال لا تتأخر.. نعم لدينا بنات ليسي ليوطي (البعثة الفرنسية) والمعاهد والكليات… لك أنت نصف السعر..ههههههه.
غابت سميرة وسط الزحام، ناثرة قهقتها الماجنة في المكان، ورائحة مثيرة تفوح من عطرها النسائي المقتنى من محلات “عطور عبد الصمد القرشي”، غابت تاركة الحاج فاغرا فمه، يتحسر على حجه الذي لم يؤاخذه الشك في أنه ضاع منه وأصبح باطلا. ظل واقفا ممسكا باللعبة بين يده، حين سمع البائع يسأل:
– هل أعجبتك؟ يا حاج .. هي لك أنت بنصف السعر…؟