فلسطين كما رآها سارتر


*أحميدة عياشي

لا تزال ذاكرتي حيّة لدى قراءتي لأول مرة «الشيطان والرحمن»، مسرحية لجان بول سارتر (1905 – 1980)، كنت حينها دون العشرين، وعليّ أن أعترف أنه كاد يُغمَى عليّ، فلقد تفجَّر بداخلي زلزال ماحق ورغبة جامحة لم أتمكّن من السّيطرة عليها، ويومها تأكدت أنني فتحت عيني على عالم لم يكن مألوفاً بالنسبة إليّ، مليء بالأسئلة المقلقة والشّكوك الحارقة.

ويجب أن أعترف بأن سارتر ينفذ إلى أعماقك ويستولي على كل ذرة في وجدانك، ولم أكن وحدي في هذا الحال، فقد كان يقاسمني هذا القدر ثُلّة من الأصدقاء والزملاء في المدرسة الثانوية، وتواصل ذلك معي لما غادرت مدينتي واتجهت إلى العاصمة للدراسة في جامعتها ولقيت حزب سارتر من المثقفين والطلبة العرب، القادمين من سوريا والعراق ولبنان وفلسطين، وكان ذلك إبان لحظة الأحلام الكبيرة لحركات التحرُّر العربية. 
وكنا نلتقي في مقهى لنغرق في سجالات لا نهاية لها، حول المعركة التي عصفت بعلاقة صديقين، سارتر وكامو، وذلك بسبب النقد اللاذع الذي وجهه فرانسيس جونسون لمؤلف كامو «المتمرد»، في مجلة «الأزمنة الحديثة»، التي كان يديرها سارتر، وكنت بالطبع انتصر لصاحب «الأيدي القذرة».
انقلاب على السارترية
سارتر، الذي كان يصف نفسه بالكاتب البرجوازي، والنّاشط الثّوري المُناصر لقضايا المهمشين والمغربين والخارجين عن القانون، سرعان ما سيتعرَّض إلى هجمة شرسة من قِبَلِ الفلاسفة الجدد الذين انقلبوا على روح مايو 1968، ووجدوا في إدانتهم للبربرية الستالينية والشمولية الماوية، وللكولاغ السوفياتي ذريعة للتنصل من ماضيهم اليساري.
لقد تجاهلت الميديا الباريسية الفيلسوف، ولم يعد له من ذكر إلا كعلامة مزعجة من الماضي، وبات الحديث عن صاحب «الأبواب المقفلة» وكأنه حديث خارج عن اللياقة الأدبية، حيث راح أنبياء هذا العهد الجديد مع سقوط الاتحاد السوفياتي وتفكُّك المعسكر الاشتراكي، وتراجع المدّ التحرّري ونهاية الحرب الباردة، والصعود اللافت لليمين واليمين المتطرّف في أوروبا، وبروز الإسلاموية على أنقاض الوطنية والقومية في العالم العربي، يبشرون بنهاية التاريخ وانتصار الرأسمالية العالمية، ولم يعد سارتر يُشكّل خبز المثقفين العرب، ولم يعد يُحظى باهتمام الميديا ودور النشر.
لكن، هل فعلاً ونحن نعيش في ظلّ هذه التداعيات المربكة والمعقدة الناجمة عن تعثر ثورات الربيع العربي يمكننا التّسليم بموت السارترية وزوال سارتر الملتزم والنقدي والمنخرط إلى جانب المستضعفين والمعذبين في الأرض في معاركهم والحالمين بعالم أفضل؟!
المثقف في نظر سارتر عليه أن يُبيّن، من خلال فنه وفكره، الطريق ويكشف عن معالمه ويترك للشعب حرّيّة الانخراط في المعركة على الأرض، لكن مثل هذا القول يناقض سارتر نفسه الذي يقول في محاورات له مع الصّحافي الأميركي جون جيراسي إنه أعطى المال للثوار الجزائريين ونقل إليهم الأدوية، ومثل هذه التناقضات في القول والتصرُّف سعى جون جيراسي في «محاورات مع سارتر» لأن يُسلّط عليها المزيد من الأضواء، وذلك من خلال تطبيق نقديته على المنهج نفسه الذي سار سارتر على هديه.
نقدية جذرية
عاد فرناندو إلى باريس بعد هزيمة الجمهوريين، وهو مفعم بمرارة الانكسار الناجمة عن انتصار الفاشية، لكن ذلك لم يمنعه من مواصلة النضال عن طريق الفنّ الذي يُدين النزعة الفاشية والعسكرتية التي تجلّت في صعود ظاهرتي الفاشية والنازية، ولقد وُلِدَ جون ووالده لازال في فرنسا، ويفتخر جون أن سارتر حمله بين ذراعيه يوم مولده، ولقد كبر الصّبي وظَلّ يحتفظ وهو فتى بكل تلك الذكريات، حيث كان يقضي والده مع سارتر وسيمون دوبوفوار وشلتهم السّاعات الطويلة في النقاشات حامية الوطيس، واستمر ذلك إلى غاية الحرب العالمية الثانية، لتغادر عائلة جون جيراسي إلى الولايات المتحدة الأميركية، أما والدة جون فهي ستيفا جيراسي، ولقد كانت طالبة في السوربون عند سيمون دوبوفوار، أما الابن جون الذي سيصبح ناشطاً وصحافياً وجامعياً، فسرعان ما سيجد نفسه مضطراً لمغادرة الولايات المتحدة بسبب انحيازه للفيتنام ضد بلده، ويعود من جديد إلى باريس وخلال لقائه مجدداً مع المفكر الفرنسي راح يشتغل على رسالة الدكتوراه عن سارتر، واهتدى بعد ذلك إلى إجراء محاورات مع سارتر، استغرقت التسجيلات عشرات الساعات وبلغت أربع سنوات بكاملها، امتدت من نوفمبر/تشرين الثاني 1970 إلى ذات الشهر من العام 1974، وهكذا تمكّن جون أن يكتب من خلال هذه المحاورات السّيرة التي لم يكتبها سارتر.
لقد وقف جون جيراسي، والذي اعتبر خائناً لوطنه في نظر الإدارة الأميركية لأنه انحاز للفيتناميين، في محاوراته مع سارتر على أرضية سارتر الذي خان وطنه من أجل حرّيّة الجزائر، لكن كان يختلف عنه كونه لم يقف داخل قالب أيديولوجي جامد مثلما حدث لسارتر عندما اقترب أكثر من اللازم من الشيوعيين الفرنسيين والماويين والسوفيات، ومن هنا اتصفت المحاورات بسجالية رفيعة أدت إلى إعادة اكتشاف سارتر: فكره، حياته، ومواقفه على ضوء نقدية جذرية بعيدة عن دائرة المحظورات، وذلك بدءاً من طفولة سارتر وعلاقته بالعائلة وسنوات التّكوين والبحث عن طريق، والذي لم يكن خالياً من التفاهات والمطبات والحماقات وأنانيات البرجوازي الصغير، ويقود جون جيرسي سارتر في المحاورات ذاتها لأن يتعرّى، وينظر إلى دمامته الفيزيولوجية والفلسفية أحياناً بشجاعة، ونقد ذاتي هو أقرب إلى الاعتراف الحميمي، ونكتشف كذلك من خلال هذه المحاورات ما يفكر فيه سارتر حول فلسطين، بحيث يقول إن الفلسطينيين ليسوا مسؤولين عن محرقة اليهود، وأنهم غير مسؤولين عن فشل إقامة دولة مشتركة بينهم وبين الإسرائيليين، فإسرائيل هي مسؤولة عن القتل بسبب التعنت والغطرسة. فهو يرى أن «الإرهاب الفلسطيني» مشروع، لأنهم جرّدوا من حقوقهم وانتزعت منهم أراضيهم، وثمة صورة رائعة يرسمها سارتر عن جمال عبد الناصر، فهو في نظره قائد ذكي، ورجل متواضع وشجاع سعى بصدق إلى أن ينهض ببلده على الرغم من أنه لم ينجح بصورة كبيرة في تحسين وضعية شعبه.
______
*الدوحة

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *