*هالة صلاح الدين
لا ينزع العالم الناطق بالإنكليزية إلى فرض التكتلات أو تشكيلها تشكيلاً منهجياً. ففكرة الجماعة المتكتلة غير شائعة على أرض الواقع الإنكليزي في العشرية الأولى ونصف العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين. وبدلاً منها تتقاطع مسارات نقدية في صورة ورش أدبية وفعاليات ذات توجهات أيديولوجية بعينها تنظمها المجلات الرصينة.
كما تصْدر كتابات تتحلى بصيغ متشابهة صدفةً أو عمداً تروِّج لحبكات أو تقنيات معينة، وتشد صغارَ الكتَّاب من أنحاء القارة الأميركية وبريطانيا العظمى إلى جعبتها. وتظل الحركات النقدية المتشعبة منها نشطةً وفاعلة عن طريق الأعمال الأدبية ذاتها بغض النظر عن أسماء كتَّابها وانتماءاتهم الأيديولوجية.
لكل ميل روائي قاعدة نقدية يتكل عليها، والأساس التنظيري هو ما يجمع الكتَّاب كوحدة. وليس بالضرورة الثلل أو المعرفة الشخصية، وقد لا يلتقون أبداً وجهاً لوجه. أستدعي حديثاً عابراً مع ناقدة أميركية استبعدت الكتابة عن رواية لأنها التقت بكاتبها، فقط التقت به!
تسام واقعي
يعد الأسلوب عبر الواقعي أحد أهم المناهج الأدبية فيما انقضى من القرن الحادي والعشرين. وفيه تمتزج عناصر الفانتازيا والخيال العلمي بتقنيات واقعية بحتة تكاد تنتمي إلى الواقعية الطبيعية، مما يجعلها متخمةً بعوامل قوة المنهجين. يرى الناقد وعالم الرياضيات الأميركي رودي راكر أن عبر الواقعية ردّ فعل على نقاط ضعف الفانتازيا والخيال العلمي.
كان راكر قد صاغ مبادئ المنهج عندما صنَّف في مقالته “مانيفستو عبر الواقعية” (1983) رواية “الماسح الضوئي المعتم” (1977) للأميركي فيليب كيه ديك كأول عمل يمثِّل حركة عبر الواقعية، واصفاً إياها بأنها “سيرة ذاتية متسامية”. والتسامي يوحي بأن الإدراك الروائي يتعالى ولا شك على الوجود المادي كضرورة معنوية لأسر المنهج.
تضمر “الماسح الضوئي المعتم” سمات نموذجية لعبر الواقعية مع أن النقاد وضعوها وقتذاك في خانة الخيال العلمي. وتدور حول دواء ينال من العقل فيما يسرد الراوي بنبرة واقعية حياة المؤلف في بيئة تترع بالمخدرات. تقع الرواية تاريخياً في المنتصف بين أدب ديك المنتمي إلى الخيال العلمي كرواية “الرجل في القلعة الشاهقة” (1962) ورواياته الأخيرة المتجردة من عوامل الفانتازيا.
راكر أيضاً مؤلف كتب تنتمي إلى الخيال العلمي، منها روايته “الضوء الأبيض” التي طبَّق فيها شذرات من مفهوم عبر الواقعية. وعلى غرار النهج ذاته نسج بي جيه بالارد وتوماس بنشن بعض رواياتهما، كما وصف ستيفين كينج حالة الطبقة العاملة الأميركية في إطار خارق للطبيعة.
تنظير فاعل
وعلى الرغم من أن ثلاثين عاماً مرَّت على مقالة “مانيفستو عبر الواقعية”، لا يتبدى هذا التنظير منقطع الصلة بملامح عبر الواقعية السائدة في الأدب المعاصر.
يحفل أدب الأميركي كريس آدريان بسمات سريالية وميتافيزيقية، وترين عليه الفانتازيا الواقعية. في قصته “وليمة صغيرة” (2009) نقرأ عن طفل مبتلى بالسرطان، حكاية أنهكها الكتَّاب إنهاكاً، عدا أن الأب في القصة جنيّ والأم جنيَّة!
ترمز الأمراض الجسدية والعقلية في القصة إلى معضلات أعظم تصيب الروح. وتجْمع الأشراك الدينية – الملائكة والشياطين والرؤى والهوس – بين البهجة والروع، ولا سبيل قائما إلى فك الاشتباك بينهما. وكما كان الحال مع كافكا وإدغار ألان بو وسلمان رشدي، يعْلم آدريان أن خير طريقة لإسباغ الإعجاز على الحياة هو الكتابة عنها بحس واقعي.
ديستوبية لا واقعية
هل يمْكن إذن النظر إلى قصة مثل “التاريخ الموجَز للموتى” (2003) للكاتب الأميركي كيفين بروكماير بصفتها عبر واقعية؟ تحكي القصة عن مدينة مستقبلية ديستوبية في منتصف القرن الحادي والعشرين. يستيقظ موتاها في عالم مواز، ويلتقطون أنفاس الحياة طالما لا يزال مَن يتذكرهم على الأرض على قيد الحياة. يعيشون على دراية بأنهم موتى، ومع ذلك يألِّفون مجتمعات تُماثل مجتمعاتهم على الأرض. ومع أن شخصيات القصة غير نمطية، لا تحمل سمات متجذرة بما يكفي في الواقعية.
النوم هروبا!
المثال الأبرز والأجمل لقصة عبر واقعية هو قصة “النوم” (2010) للكاتبة الأميركية كيتلين هوروكس. كل شيء في “النوم” واقعي بامتياز، النقد الاجتماعي جارح، والسياسي نافذ. الشخصيات مرسومة لتتعرف فيها على جارك وابن عمك، والأماكن كلها على الخريطة. ولكن هل حقاً باستطاعة البشر أن يناموا الشتاء بطوله هرباً من قسوة الحياة والطبيعة؟
أحياناً ما تتأرجح “النوم” على حافة الخارق للطبيعة. فالمؤلفة تسبر ما قد يقع حين يقرر سكان بلدة صغيرة قضاء الشتاء في سُبات عميق. تنفَض على غرار قصة شيرلي جاكسون “اليانصيب”، إذ يتناقش السكان إن كان من الحكمة مقاومة النوم أو الخضوع لضغوطه. لا تخلو من سخرية مجتمعية عندما يكتشف التليفزيون العادة، ويفسر المذيعون الممارسة على أنها إعلان سياسي.
وقد نتبين الرؤية نفسها في رواية الكندية مارجريت أتوود “حكاية الخادمة” التي تتعامل مع ضجر المنهج الواقعي وحدوده الضيقة باستخدام عناصر فانتازية لخلق استعارات مبتكرة تعبِّر عن التقلب النفسي وتدمج وجهة نظرها القائلة بحقيقة أسمى تتفتق عنها الحياة.
تأويل فانتازي
كان ديميان بروديريك، كاتب الخيال العلمي ومحرر ما يزيد على خمسين كتاباً، قد أدلى بدلوه حين أكَّد أن هناك حالة من الإدراك أسماها “عبر الواقع” تتناقص مع الواقع المتفق عليه. ويراها شرطاً أساسياً لكتابة أدب عبر واقعي، ولا سيما عندما يدنو المجتمع من تقدم تكنولوجي فريد.
وعلاوة على هذا التحليل يضيف البريطاني مارتن آميس طبقة عبثية من السرد. ففي روايته “سهم الزمن” لا يعتنق التأويل الفانتازي للأرضية الواقعية فحسب، بل يقوضه باستخدام إشارات هنا وهناك إلى العلوم التخمينية. هل يجوز لنا نسبها إذن إلى الأدب ما بعد الحداثي؟ لا سبيل إلى الفصل في هذا السؤال إلا برصد إنتاج عبر الواقعيين في غضون ثلاثين عاماً تالية.
نعم لمن نتفق معهم
ولطرح نظرة إلى ما استجد في العالم المتحدث بالإنكليزية من حركات خلال السنوات الأخيرة، لا ينبغي أن نغفل المجلات الأكثر تأثيرها في التوجه الأدبي. تفتح مجلة “لندن ريفيو أوف بوكس” يسارية الهوى أبوابها “لمن نتفق معهم، ولمن لا نختلف معهم كلية، ولكننا لا ننشر لمن نختلف معهم تماماً”، هكذا صرحت رئيسة تحرير المجلة ماري- كيه ويلمرز لجريدة العرب في حوار معها مؤخراً. لا تنحو المجلة إلى اكتشاف المواهب، وإنما ترسيخ الأسماء العريقة الراسخة بالفعل.
تتلون بطابع سياسي بقدر ما تتكل في أغلبها على النقد الأدبي، وكثيراً ما يلتقي الاثنان. أثبتت أنها من أكثر المطبوعات البريطانية دعماً لحركة الربيع العربي بعد أن نشرت مراجعة هيو روبرتس لكتاب روجر أوين “صعود وهبوط الرؤساء العرب لمدى الحياة”.
ومنذ وقوع ويلمرز تحت تأثير إدوارد سعيد الفكري، لا تزال مجلتها – ويلمرز ليست فقط رئيسة التحرير، وإنما داعمها المالي الأول – تعتقد أن أميركا هي العائق الأول أمام حل القضية الفلسطينية، وتؤيد الفلسطينيين تأييداً قد نجده أشد انحيازاً من بعض المطبوعات العربية.
انتقدت ويلمرز كذلك ضحايا المجلة الفرنسية شارلي إيبدو، معلنةً أن المجلة الفرنسية “خاطرت، المرة تلو الأخرى، والنتيجة كانت مريعة. تمنحنا الحكومات حرية التعبير غير أنها لا تعطيك الحق في إهانة جارك”. وأفسحت صفحات المجلة للبريطاني والباكستاني طارق علي لانتقاد محرري شارلي إيبدو، وبالمرة كل من يدافع عنهم!
و”لندن ريفيو” ليست فقط أعرق المجلات البريطانية على الإطلاق، وإنما أيضاً الأوروبية. لا غنى عنها لكل دارس لغوي يبحث عن أطول العبارات وأشدها تعقيداً. وقد أنعشت نموذج المقالة الطويلة في محاولة لموازنة الإيجاز المخل للشبكات الإلكترونية الاجتماعية. نموذجٌ يتيح للكاتب نسج حجة مقنعة بدلاً من التصريح بأيّ رأي عشوائي دون داعم فكري. وهكذا يبدو وكأن المشهد الثقافي البريطاني يمْكن ابتلاعه بقضمة سريعة أو لمحه بنظرة خاطفة، عدا مقالات تلك المجلة.
جبن أدبي
حول المجلة يتحلق عددٌ من أبرز الكتاب والشعراء البريطانيين، وكثيراً ما تظْهر التيارات النقدية للمرة الأولى على صدر صفحاتها. تتبلور موادها في طابع نخبوي، مستجلبةً الخلافات، لا ديمقراطية المسلك مثلما تقر رئيسة تحريرها، “إن الديمقراطية توجهٌ تنتهجه الحكومات أو تخفق في انتهاجه. ونحن لسنا حكومات”. وعلى إفراط المجلة في التعالي الفكري، يعيب كتَّابها على النقد الأكاديمي عدم وضع القارئ نصب عينيه.
وعلى مدار ما يزيد على خمسة وثلاثين عاماً احتفت المجلة بأقلام رفعتها إلى السماء بينما خسفت بغيرها الأرض. لا تنساق إلى مديح الكتب الفائزة بالجوائز، وإنما إلى ما يخاطب ذائقة كتَّابها، وغالباً ما تتكرر أسماؤهم. والبادي أن المطبوعات الأخرى تستجيب لما تطرحه من رؤى، إيجابية كانت أو سلبية. لعله مجرد جبن أدبي، فلا أحد يرغب في الظهور بمظهر المختلف عن “لندن ريفيو أوف بوكس”!
نخبوية شعرية
تنظِّم المجلة شهرياً عدة ندوات ولقاءات أدبية، كما ترتِّب حفلات التوقيع وتدعو الروائيين والشعراء العالميين إلى إلقاء الخطب وإجراء الحوارات. وفي العام الماضي حققت مكتبة لندن ريفيو أرباحاً استهانت بالكتاب الرقمي وفكرة البيع الإلكتروني برمتها.
وعلى حين تتقلص مساحة القصائد في المجلات الأخرى، تنشر “لندن ريفيو أوف بوكس” الشعر على مدى صفحات، محتضنة شعراء كبارا من أمثال توني هاريسون وديفيد هارسينت ودينيس رايلي وروبين روبرتسون وجون بيرنسايد – والأخير يعده بعض النقاد أعظم الشعراء البريطانيين المعاصرين.
منهج تجريبي
يعيب النقاد العرب على صغار الروائيين تقليدهم لأسلوب نجيب محفوظ. وفي العالم الناطق باللغة الإنكليزية، وبالأخص في أميركا، ينتقدون تقليدهم لأسلوب الأميركي تشارلز دامبروجيو.
كان دامبروجيو قد حصل على ماجستير الفنون الجميلة من ورشة أيوا للكتَّاب، وعمل في تدريس الكتابة بالورشة ذاتها، مرسياً عدة أولويات نقدية بوسع الناشئين التملص منها إن لزم، ولكن الأمر ينتهي بهم إلى اتّباعها، ربما بصورة حرفية، وإن صارت الورشة تميل إلى المنهج التجريبي العام بعد الآخر.
تأسس برنامج الكتابة الإبداعية الأقدم في أميركا – والمعروف بورشة أيوا – عام 1936، وتتابعت دروسه عقوداً في ثكنات عسكرية مؤقتة بحيال نهر أيوا. واسما البرنامج يوحيان بثنائية الهدف والوظيفة بصفته برنامجاً، ينال الخريجون فيه شهادة الماجستير في الفنون الجميلة، وكورشة تتيح الفرصة للناشئين للاستفادة من الشعراء والروائيين المخضرمين من أمثال فيليب روث وريموند كارفر وجون تشيفر وديلان توماس وروبرت فروست.
نال خريجو الورشة كل جائزة تحت الشمس، منهم سبعة عشر فائزاً بجائزة بوليتسر، آخرهم الأميركي بول هاردينج عام 2010، وعدد آخر لا حصر له من الفائزين بجوائز الكتاب القومي ومنح مؤسسة ماكآرثر. والورشة المرموقة شغلت في يناير الماضي حلقة كاملة من مسلسل “فتيات” الأميركي.
لا ضمان
يتفق مانيفستو الورشة جزئياً مع الرأي القائل بأن “الكتابة لا يمْكن تعليمها، ولكننا نتواجد ونتابع العمل على افتراض أن الموهبة قابلة للتطوير. وفي ضوء هذا ندرك إمكانياتنا وحدودنا ككليّة. لو باستطاعة المرء أن يتعلم العزف على الكمان أو الرسم، بمقدوره أن ‘يتعلم’ الكتابة مع أن عمليات التدريب لن تضمن أنه سيكتب كتابة جيدة”.
الواقع أن الورشة أهّلت المفكر رضا أصلان والناقد فلانيري أوكانر والقاصة زيزي بيكر والروائية جيش جين والروائيين دينيس جونسون وجون إرفينج وبروفيسور الكتابة الإبداعية ريتشارد بوش لبلوغ ما بلغوه من تفوق. ولا ريب أنهم جميعاً أضافوا الكثير من التفرد على ما أسبغته عليهم الورشة.
أمَّا الروائي ألان جرجانس المتخرج من الورشة عام 1972، فيظن أن السجون أخرجت كتَّاباً أكثر من الكليات، “تنحبس مع أفكارك وهواجسك ونزواتك، وبأبسط الأدوات تجعلها حقيقية، ربما بقلم رصاص وورق مرحاض”. ومع ذلك أهّلته الورشة ذاتها ليفوز بجائزة سو كاوفمان من الأكاديمية الأميركية للفنون والآداب. كان جرجانس هو أيضاً القائل بأن العبارات تخْرج بالدم، وبأنك ولا بد “غبي قليلاً” لكي تكتب! ربما لا تكون الكتابة مكدِّرة إلى هذه الدرجة، والمتحدِّث يتحدث عن موهبة جمّة قد لا ننتهي جميعاً إليها.
أمَّا متوسطو الحال من الكتَّاب، فسوف يجدون دوماً منهجاً أو مجلة أو تجمُّعاً أو سجناً، أيّ ملجأ أدبي وسط ثقافة قد تتصف بالعنف والعدوانية، يلم شتاتهم ويشحذ أذهانهم لتفكيك قصصهم ثم إعادة تشييدها.
_________
*كاتبة من مصر مقيمة في لييدز/بريطانيا
المصدر:العرب