“عصافير تلوث عُشَّها”.. الكتابة فعل “إجرامي”


*كمال الرياحي

يمثل خوان غويتيسولو أحد أهم الكتاب الغربيين الذين ربطوا علاقة حميمية مع الشرق وثقافته، ومثلت كتبه ورحلاته دليلا ساطعا على ذلك. وكانت إقامته في طنجة في المغرب الأقصى نقطة اللاعودة للمركزية الثقافية الأوروبية حتى بات صوت العرب وثقافتهم في أوروبا, وظل مناصرا للقيم الإنسانية وللمستضعفين, وشوكة في حلق الطغاة والدكتاتوريات.

ولا يمكن أن ننسى رفضه لجائزة العقيد معمر القذافي، التي قبلها جابر عصفور، وموقفه منها ورده الضاري بأنه ناضل ضد الدكتاتورية في أوروبا لا من أجل أن يقبل جائزة من دكتاتور عربي: موقف لم يتجرأ عليه كاتب عربي.
“عصافير تلوث عشها” ترجمة المغربي عبد الكريم جويطي وتقديم المغربي محمد برادة والصادر عن دار آفاق المصرية، نافذة أخرى على شخصية هذا المغامر الإسباني والطنجاوي الآخر إلى جانب الفرنسي جان جينيه والأميركي بول بولز. نافذة يذكّر قسم منها بـ غويتيسولو الكاتب المناضل ضد الهيمنة, ويكشف في قسمه الآخر عن حس نقدي عميق لكاتب جرّب الحياة ضروبا وقلّب الكتابة أصنافا.
تفجير الكوسموس أو لا وطنية الثقافة
يشن غويتيسولو في فصل تحت عنوان “غابة الكتابة” هجوما فكريا رصينا على ثقافة التعصب الأوروبية والتي تعتقد في نقائها مما دفعها في حالة ألمانيا النازية إلى تشريد المثقفين والمبدعين غير الألمان أو تصفيتهم، مما دفع بالشاعرة نيلي ساش إلى الهروب من ألمانيا فلم يكن لها خيار غير “الهروب من وطن خالص عرقيا ولا تشوبه شائبة، أو الموت في رعب شعائر تطهيرية بلا رجعة”.
ينطلق الكاتب في إحراج هذه المركزية المتعصبة فيشرع في تفكيك أزمة الفكر الغربي الذي ظل -وفق رأيه- يستبعد ذكر روافد ثقافته العربية واليهودية متمسكا بأكذوبة النقاء الثقافي، بينما “كل ثقافة -كما يقول- هي في نهاية الأمر جماع التأثيرات الخارجية التي تعرضت لها، دون رغبة في إنكار وجود ثقافات وطنية شريطة ألا تكون إقصائية ولا محصورة في البحث عن هويتها الخاصة”.
ويوضح الكاتب أنه “لا يمكن للثقافة أن تكون حصريا إسبانية أو فرنسية أو ألمانية، ولا حتى أوروبية. إنها خلاسية، لقيطة، مخصبة من طرف حضارات أخرى”. ويُذكّر صاحب رواية الأربعينية الغرب بأنه استورد النموذج الثقافي الغربي, كما استورد في لحظة تاريخية النموذج الشرقي مع فولتير ومونتسكيو وفلوريدا وشليغل ونيرفال ودولاكروا وفيردي حتى بيكاسو.
ويتهم غويتيسولو الأوروبي بالتمركز النرجسي على الذات, والذي يتباهى به دائما, متجاهلا أن “أوروبا وامتدادها الأميركي الشمالي كان ثمرة التلاقي الخصب لتأثيرات خارجية”.
ويسخر الرحالة الإسباني من هذا الفكر معتبرا أن “أوروبا الخالصة ثقافيا صنيعة حفنة من المؤرخين والفلاسفة” ليكشف في تحليله قصور هؤلاء الفلاسفة والمؤرخين الذين يتبجحون بالإرث الإغريقي, متناسين أثر الحضارات المصرية والسريانية والفارسية في تشكيل ذلك الإرث نفسه.
ويربط غويتيسولو بين هذه الرؤية للثقافة بالكتابة. فعدم وجود ثقافة وطنية نقية، وكل ثقافة وطنية مشكلة من جذور مختلفة، وكل كاتب يأخذ عملا مأخذ الجد ينطلق من هذه الحقيقة التي لا يمكن الالتفاف عليها “وجود شجرة يتطلع لإغناء حياتها وجعلها باسقة، وبقدر ما تكون الشجرة عالية وكثيفة ومشذبة بقدر ما تكون إمكانيات لعبها ومغامراتها كبيرة”.
في ظل هذه التشابيه والاستعارات الرومنطيقية للثقافة بالحقول والأشجار، تستعيد الثقافة والأدب دورها المتعوي اللعبي مع غويتيسولو, ويعتبر أن اللاعبين الحقيقيين لا يتعصبون للمفهوم الضيق للثقافة, ولا يؤمنون بالأسلاك الثقافية الشائكة، إذ “الشعراء والروائيون الذين يتطلعون لترك آثار وإضافة غصن أو تفريع إلى أشجارهم لا يخضعون لأي تأثير خاص، لأن نهمهم الأدبي سيمنعهم من التوقف عند كاتب أو نموذج وحيد”. واعتبر أن قدوتهم ستكون بورخيس ليكون “طموحهم هو نهب كل التراث الثقافي لعصرهم”.
وقد وصف غويتيسولو الأدب الإسباني بالوليمة العظيمة للمبدع الحقيقي بتعدد جذورها الإغريقية واللاتينية والعبرية والعربية. وأي محاولة للنظر إلى المجتمع الأوروبي بعيدا عن واقع التعدد الثقافي يعني “ترك المجال حرا لمنطق الإقصاء والنبذ”. وهكذا ينتهي بِنَا المقال إلى موقف تجاه سياسة إقصاء المهاجرين في أوروبا بذريعة معضلة الإدماج التي أدت بأوروبا المتعصبة والبربرية إلى نصب “معسكرات الاعتقال الكريهة في سراييفو، إلى ذبح اليهود”.
الكتابة فعل “إجرامي”
ينتقل غويتيسولو من نقد الفكر الغربي ومركزية الذات الأوروبية ونرجسيتها إلى تعرية الأنظمة السياسية من خلال كشف حقيقة الممارسة السياسية في علاقتها بالكتاب, والتي تجرم فعل الكتابة إذا ما دار خارج فلكها.
وقد خصص هذه المداخلة للأدب في البلدان التي تحكمها الدكتاتورية، ولم يفرق غويتيسولو بين الدكتاتورية العسكرية أو السياسية أو حتى الاجتماعية والأيديولوجية. فَطَال نقده إسبانيا وكوبا والأرجنتين وأورغواي وباراغواي, وأميركا الجنوبية قاطبة, والدول الناطقة بالإسبانية.
فقد جعلت هذه الأنظمة “ممارسة الكلام أمرا خطيرا والأدب جريمة” ومن الكتاب مجرمين تطاردهم وتطارد إنتاجهم بآلتها القمعية بدافع حماية الأخلاق والوطن. فقد كان النظام الإسباني مثلا يرى فيهم مارقين.
وكان هؤلاء “يُقارَنون باللصوص، وبالخارجين عن القانون، برجال العصابات، بالمغاوير، بالشريرين، ويعتبرون كالغجر والمشردين، والأشخاص السيئين, وكل المنغصات في هذه المقولة الجنائية الشاسعة وغير المحددة المسماة خطرا اجتماعيا”.
ويذكر غويتيسولو الألقاب التي كانت تُلصَق به كـ”وغد القلم” ووصفه آخر بأنه “كان معروفا في مخافر الشرطة أكثر من المكتبات”. ويروي الكاتب كيف وقع اقتحام مستودع دار النشر التي تنشر كتبه وتفتيشها بطريقة “وحشية” بحثا عن تلك المؤلفات الممنوعة.
غير أن الكاتب يرى فيما قدمته له الدكتاتورية أعظم من أن يقدمه أي مديح من ناقد عظيم، لأنها هكذا حصّنت كتبه من أي نقد وأسطرته وأسطرتها. فقد “استفاد -يقول غويتيسولو- الكتاب الإسبان طيلة أربعين سنة من هذا الامتياز المُحمِّس” وإن تحول الأدب إلى فعل إجرامي, حوّله من كاتب مسالم إلى وضعية المجرم مما جعله يتميز عن زملائه المحترمين, وإن الدعاية الرسمية للنظام الدكتاتوري وضعته جنبا إلى جنب مع الكتاب المارقين الكبار مثل ألبيرتي وأربال وساستر.
ويذكّر غويتيسولو بأن بعض هذه الأنظمة وخاصة منها الأميركية اللاتينية قادت بعض الكتاب، بتهمة ارتكاب الأدب، إلى السجون والتعذيب والخطف والاختفاء أو الاغتيال. ويتساءل عن مصير كتاب مثل خوليو كاستيرو وهارولدو كونتي ورودولفو والش؟
ويُفصّل الكاتب الإسباني أشكال الملاحقة للكتاب “المجرمين” وفق تصنيف تلك الأنظمة إلى “مراكز إعادة التربية عن طريق العمل، كما حدث مع لكوزنبرغ, أو إلى مستشفى للأمراض النفسية، كما جرى لبليوتش”.
وينتهي في محاولة لفلسفة هذا الإجرام في حق الأدب والأدباء بتغيير وجهته انطلاقا من نظرية انقلاب العين، فيستشهد بمقولة أحد الكتاب “المجرمين” أونري سينافسكي “هذا الفن مثل السرقة والجريمة، فلأن له قيمة، إنه شيء واقعي”.
وينتهي إلى الاعتقاد بأن “كل أشكال الفن جريمة: جريمة ضد المجتمع والحياة نفسها”. أب ضد التسطيح والسخافة والممارسات الوضيعة للبشرية, سلطوية كانت أم مجتمعية. ويخلص إلى أن “الفن لا يرضى بالحياة كما هي، إنه شكل من أشكال الانشقاق التي يُنظَر إليها عبر التاريخ كفعل إجرامي”.
حب العرب.. رهان كتابة
في محاضرة تحت عنوان “رهانات الكتابة” يتوقف غويتيسولو عند علاقته الحميمة بالعرب, والذي اعتبره انهماما شخصيا بالعرب, مرده دافع إنساني في البداية وليس ثقافيا أو أدبيا.
فقد بدأ اهتمامه بالعرب عند معايشته حرب التحرير الجزائرية من خلال إقامته في باريس ومتابعته لسنوات “الرعب اليومي والاضطهاد العنصري، الإهانات، الحملات التأديبية، الاغتيالات المكرورة, والتي تبقى بلا عقاب من طرف الشرطة”.
وشيئا فشيئا تسربت كيمياء أخرى غذّت تلك المشاعر الإنسانية لترفعه نحو مرتبة الحميمي من خلال “النفاذ إلى اللغة والأدب والفكر”.
ويظل غويتيسولو يثمّن الثقافة العربية وأثرها في الثقافة الإسبانية في محاضراته اللاحقة عن سيرفانتس وبورخيس وكارلوس فوينتس وفلوبير, مشيرا كل مرة إلى معايشته للعرب في رحلاته وفي إقامته بطنجة بالمغرب الأقصى, التي منحته رؤية أخرى لهذا الميراث السيرفاثسي الذي فككه في هذا العشّ وطهّره من ركاكة المقاربات النقدية المكرورة انطلاقا من تحرره اللامشروط من كل مدارس النقد الأدبي الكلاسيكي والمعاصر.
_____
*المصدر: الجزيرة

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *