هي تعلم متى أنام


*علي الحديثي

(ثقافات) 

برغم الفضاءات المستلقية أمام عيني إلاّ أنني كنت أشعر بروحي تقحم نفسها إقحاماً بين الفتحات الموجودة بين الصبات المرصوفة أمامي.. تارة تضيق.. وتارة تتسع.. تارات مرهونة بالأمس، هو من يملك زمام أيامي.. هو من يحدد الفتحة بين صبة وأخرى، وأنا أسير نحو اللاموجود المتراكم في ذهني، حتى إذا ما ضاقت ولم أعد أستطيع إقتحامها أعود ذليلاً من سلطة العدم التي أحكمت قيودها حول أفكاري..
أعود إلى بيتي لأرمي فوق مكتبي القلم وأوراقي غضبان أسفاً من هذا الفراغ الذي يبتلع أحلامي بلا رحمة ولا هوادة، الوحدة تجعلك تشعر بالموت وأنت حي، ما أصعب هذا الإحساس.. أعود إلى بيتي الذي أعدته زوجتي بأحلى ما يتمناه الرجل من ترتيب وجمال.. وابتسامة انتزعتها عنوة من اسمها، لترسم بها على وجهها لوحة قلبها النقي.. بشجاعة قل مثيلها بين النساء وهي تقف أمام رياح تمردي الغبية…
كنت أدخل البيت وكأنني عائد من حرب ضروس، لم يكن مظهري يختلف عن أي رجل إلاّ بشعري المنسدل فوق أكتافي، برغم اهتمامي الشديد به، لكنه مخالف للأعراف السائدة، مما سبب لي كثيراً من المشاكل لاسيما في دائرتي، إلاّ أن مشكلتي أو قل إحدى مشاكلي أني لم أكن أفكر بالمجتمع حولي.. لا أحد هنا سواي.. أو كلهم هنا سواي..
لم أكن مجنوناً كما تظنون، حتى مرآي لا يوحي بالجنون، إلاّ أن الفوضى التي نمت أشجارها العارية في دروبي هي من جعلني أشعر وأنا أدخل بيتي كأنني عائد من حرب ضروس…
بابتسامتها الشاحبة استقبلتني، وقد جعلت من قلبها قبراً لصرخاتها المكبوتة.. لست أعمى.. لست أصم.. لم تزل للإحساس نجوم تلمع في سمائي، إلاّ أنها سلسلة لا يمكن فصل حلقاتها، فمنذ أن اعتقلني الأمن بسبب أفكاري المناقضة لأفكار الحزب الحاكم وأنا رهين المحبسين “الوحدة والغربة”…
قبل أكثر من عشرين سنة بدأت تستحوذ على أفعالي وأقوالي أفكار جديدة.. أفكار سحبتني بحبالها بعيداً عن العالم المحيط بي، إلى عالم أجمل وأنقى وأرقى.. توغلت فيه حتى صار لي سمة ملاصقة لاسمي، ظللت أتوغل.. أتوغل.. كنت اعلم أن رجال الأمن والحزب الحاكم يراقبون توغلي كمدرب حذر يراقب هجوم الفريق الخصم، كنت استلذ بهم وهم يراقبونني، لا محالة إنني أصبحت ذا شأن، وهناك رجال يأخذون رواتب على مراقبتي، وإيماني بقضيتي بدأ يترعرع بين أفكاري، وصار لي درعاً أتقي به ضرباتهم التجسسية، حتى كان يوم اعتقالي وأنا أحمل كتاب “لماذا أغتيل….؟” وقد أحكمت لفه بالجرائد..
وبعدما أفرج عني فوجئت بأبواب عالمي قد أغلقت، وبدأ أصدقاء ذلك العالم ينفرون من حولي خوفاً من عيون الحكومة، لم يعد لي كرسي أجلس عليه بينهم، حتى إذا ما اعتراني اليأس منهم هرعت نحو عالمي القديم لعلي أجد في فمي بعض كلماتهم التي أحدثهم بنا، فإذا بي أجد جميع اللغات قد ماتت بين شفتي.. سنوات وأنا أتخبط في شوارع التمرد العمياء، مرتدياً معطف الخوف.. الخوف من كل شيء يحيط بخطواتي كأسلاك شائكة….
كانت زوجتي قطعة من آلامي، بل هي الألم الأوحد الذي تجسد أمامي إنساناً يتحرك.. يأكل .. يلبس.. يبكي.. يتألم.. لم تدع باباً إلاّ وطرقته بحثاً عن حل لي، وفي كل باب اختصم معها.صرخاتي تعلو.. جراحاتي تتمزق واحداً بعد الآخر، دموعها حطب يزيد في استعار الغضب..اركض نحوها لأضربها، أقف قريباً منها.. لساني يتلعثم.. الشلل يلتف حول يدي.. بينما تنطلق نحو الحاجيات الأخرى..المسجل.. المزهرية.. أي حاجة يمكن تحطيمها.. أتوجه نحوها لأحطمها كالحاجيات.. أشتهي ضربها، ولكن حجاباً من اللا أدرية يحول بيني وبينها..وبعنف أهزها من كتفيها، لا ادري كأني أحاول بذلك أن أنفض عنها تراب الذل من أجلي؟ .. أم إنني بهزها أهز غضبي ليمنحني القوة على ضربها كدرويش يدور ويدور في مكانه ينتظر مدده المزعوم..
منذ أن أغلقت الأبواب بوجهي وأنا أهيم في صحاري الفكر الجرداء.. أتخبط بين دروب اللذة العمياء، برغم فشلي فيهما، إلاّ أنني لم أجد غيرهما أمامي.. أفشل وأنغمس فيهما.. أفشل وأنغمس…. أفشل وأنغمس….
بركان الغضب يتامى في داخلي، ابتعد عنها، أسير في الغرفة المغلقة جيئة وذهاباً، بكفين تعبثان بشعري الطويل، جعلني أبدو في المرآة كالمجنون.. نظرت إليها عبر المرآة، ناكسة رأسها، وقد أصابتها عدوى اللا أدرية مني، فلا تدري ماذا تفعل معي..
كانت تعرف كل حركاتي.. كل سكناتي.. كل صديقاتي.. برغم محاولاتي الفاشلة – كحياتي – في إخفاء علاقاتي، إلاّ أنه لا يمضي على معرفتي بأي فتاة يوم أو يوم أو ربما ثلاثة حتى أجد زوجتي قد عرفت كل جديدي، فكنت أقول لها ساخراً:
– لقد خسرت المخابرات العراقية عقلاً مخابراتياً عجيباً.
– أنا أعرفك أكثر من نفسك، يقولون أن قلب الأم دليل على ابنها.. ولكنكم لا تعلمون أن قلب الأم ذاك يتحول إلى زوجة ابنها.. لا مفر لكم من قلوب النساء..
– ها أنت تعترفين ألاّ مفر لنا من قلوب النساء.. فلماذا تعتبين وترفضين أن أتنقل بين قلوب النساء..
– لأنكم تصفون الزواج بالسجن.. وأنت الآن سجيني..
كنت اعلم أن كلماتي أفعى تلدغ كبريائها.. أفعى سامة تلتف حول غيرتها لتقتلها، كنت أسعى لتمزيق كل لوحة جميلة في حياتي، فما حاجتي لها بعدما تهدمت كل الجدران، لا تظنوني قاسياً، لم أكن حاقداً.. بل كنت كارها لها أن تكون معي، فأفعاي ستبقى تبث السم في جسد حياتنا حتى يقضي الله أمراً كان مقتولاً..
أحسست بباب المغارة يغلق، والظلمات تحكم سيطرتها على عيني، فلم أجد إلاّ النوم أفر إليه من صرير أبواب المغارة، لتجلس هي عند رأسي تداعب شعري… لقد كانت تعلم متى أنام… 
______
من مجموعته القصصية ( المعبث )

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *